الثلاثاء، 26 مايو 2009

أحمد الفيتوري


بالمناسبة : أنفلونزا جنون العظمة


التعالي وامتلاك الحقيقة وتسفيه الآخرين والتقليل من قيمة تجاربهم والاستخفاف، ليست هذه بحاجة لسلطة؛ أيا كانت هذه السلطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية ، الأمر لا يحتاج إلا اعتدادا مبالغا فيه بالذات الذي بمكنة أي أحد أن يصاب به ويصيب الآخرين به .
ولهذا الرشح أسباب عدة للإصابة به؛ فهو كما أي أنفلونزا معدي ووبائي ؛ ومن أسبابه البينة الأزمات الذاتية والموضوعية ، فالذاتية منها أسبابها سيكولوجية في الغالب، ومدعاة ذلك أحيانا موضوعية؛ كأن يعرف شخصا ما القراءة والكتابة في جمع أمي أو يعرف لغة أجنبية لا يعرفها هذا الجمع ، وعلي هذا المستوي الذاتي لا يمكن حصر أسباب ذلك، فمنها حتى ما هو إكلينيكي يعالج في المصحات، وكثيرا ما يكون مرضا مزمنا كجنون العظمة مثلا .
لكن علي أي حال لسنا هنا بصدد حصر مثل هذه الجنون، حيث بمكنة أي راغب العودة إلي أي مكتبة مختصة.
أما الموضوعية فيمكن إرجاعها عند الباحثين لأسباب يحددها منهج البحث ومرجعيته، ومنها علي سبيل المثال الأزمة الدولية الحالية، التي نتجت عقب تغير النظام العالمي وانهيار نظام القطبين، ثم خروج ظاهرة الإرهاب والتعصب، ولصق هذين بالمسلمين والإسلام نتيجة لحوادث ظاهرة هنا أو هناك، حتى ظهر ما سمي بفوبيا الإسلام كوسواس قهري تبثه الميديا كوباء وتشحنه أحداث كثيرا ما كانت رد فعل ناتج هذه الفوبيا.
هذا الحدث الدولي أحدث اضطرابا فكريا وتوترات نفسية وتغضنات علي أرض الواقع ، حولت العالم إلي ساحة معارك ملغزة؛ يغلب عليها التكتيكات الآنية الظاهرة ، فيما غابت الاستراتيجيات عن الناس الذين حولوا إلي متلقي منفعل ومفعول به .
هذا مثل جانبا موضوعيا، صاب كافة الناس المنفعلين بما يقال لهم، الواقعين تحت طائلة أكبر مؤسسة أنشئت في تاريخ البشرية : الميديا الحديثة التي تطاولك في عقر دارك أو كما يقال .
إذا الموضوعي أيضا معقد كالذاتي وإن أمكن دراسته في المعامل البحثية وبالعقول العلمية وبالصرامة الذاتية وبالتعفف عن الصغائر والانتباه للقصور البشري .
وإذا حق لنا النظر في واقع الحال البين لنا والذي له علاقة بمعيشنا، فسنتخذ مثالا هاما نموذجيا يحاصرنا فيما نطالع ونقرا يوميا، حيث نصفع كل يوم بمتنطعين لقضايانا هم متعصبون يدرون أو لا يدرون وهم يصمون مثلا العرب بالتعصب والمسلمين بالتخلف والليبيين بالقصور وبنخبها بالجهل .. الخ ، وهم طبعا مصابون لسوء الحظ بكل هذه الملوثات كونهم مسلمين عرب ليبيين ومن النخبة مثلا.
كي ينأون بذواتهم يتعالون عن موضوعهم فيصدرون أحكاما قطعية وجزافية منها :
كل النتاج الفكري وكل البشر المنتجين لهذا النتاج قاصرون، من هذا يبدأ مسارهم من النفي القطعي للغير، ويعدون هذه المجتمعات الأمية طفولية وبحاجة لرعاية هم الراعي في تقديرهم لأنفسهم ، و لا يألون جهدا في نقودهم للسلطات السياسية الحاكمة المطلقة التي تحول المواطنين إلي رعايا .
ورغم أنهم بشر وأنهم محدودي الإطلاع وأن معارفهم مهما كانت لا تتعدى أنوفهم ، رغم ذلك فإنك تجدهم بخط قلم غير مبرأ يصرون علي أن ما تم قبلهم كله بحاجة للحذف ، وفي أحيان أخر يصرون بعناد طفولي أنه لم يكن ثمة شيئا قبلهم .. ولهذا لابد من الصفر.
ومن عناصر الإثبات لهذه الحالات المتطرفة أننا لا نجد لما يكتبون أي مراجع كانت ، خاصة المحلية منها ، وبهذا وهم يعيدون إنتاج ما أنتج يظهرون في شكل موضوعية زائفة .
إن المرجع الوحيد المسكوت عنه هو أن الذات هي المنتجة؛ فإن الحرير تنتجه دودة القز هذه وليس لورق التوت علاقة البتة .
ومن طبع الحال أن هذه الذات / دودة القز نظرية الطابع؛ باعتبار أنها المتفرج الوحيد في تربونة الواقع الذي هو ورق التوت الزائد ناقص وجوده .
لا أريد الدخول في تفاصيل هذا المشهد الجنوني؛ لأن تفصيله تمنح فرصة للمزايدات التي هي من طبع مجنون العظمة. فهذا المتفرج الوحيد لا يألوا جهدا عن أن يكون مبرزا ولهذا يتمحك وينتهز كل الفرص كي يكون في الضوء . و يستخدم كل الوسائل من أجل التشويش كي يكون في قلب الصورة ولكن بعيدا عم ما يحدث.
وهذا الجنون يجعل المرء يعيش رهابا من كل ما يقوله ويفعله الآخرون، مما يستتبع ذلك دون كوشتيه عالية في نقود لا أول لها و لا أخر، هذا فيما يخص من يسهل نقدهم و لا يستتبع ذلك أية فاتورة من الجدية، وتتوفر كل الحماية والأمان في حال تسفيه نظرتهم والاستخفاف بأفعالهم .
وحال التناقض هذا من رهاب ومن جرأة وقحة، مرده أن جنون العظمة يجعل الشخصية مضطربة وموتورة .
وهذا منطق أعوج بينّ، ديدنه التخوين وتتفيه كل ما لا يروق له ، وهو من جهة أخري متزلف وانتهازي الطابع، يتخذ من كل وسيلة ممكنة سبيلا للتبرير فهو منطق تبريري بالأساس ، إنه التردي الذي يمدح التردي ، ومن فضائله أنه كما ديك الزبالة التي كلما زادت أتاحت له أن يرتقي القمة كي يؤذن بانتشار وازدهار الخراب .
لا أحد قبله تمكن من السؤدد ولا أحد يملك الحقيقة ، لهذا يرتع في ساحة الصغار محرضا ودافعا لتسفيه الآخرين ، مصادرا كل حقيقة لا تروقه ، معتبرا كل المشاريع التي بدأت قبل أن يولد قاصرة وقام بها نفر من المعتوهين .