السبت، 7 مارس 2009

أحمد الفيتوري


رسالة إلي الكاتب محمد المفتي


صديقي
تحية طيبة وبعد
كنت اطالع بنهم كتابا عن اسطنبول للكاتب اورهان باموق ، هذا الصباح من هذا اليوم من رمضان الشهر الذي يدوزن حياتي؛ حيث علي غير العادة افيق مبكرا، لعل ذلك بحثا عن العزلة ما تستوجبه المطالعة والكتابة كما تعلم .
فجاءة ، وليس للفجاءة من تعليل مباشر، وجدت نفسي قدام جهاز الكتابة الكومبوتر اسطر لك هذا :
ما العلاقة بين اسنطبول والمفتي دون الدخول في متاهات التفصيل ؛ ما خطر علي بالي هو المشترك بين ما تكتب وما طالعت عن اسطنبول، حيث يشير الكاتب والكتاب الي مساءلة في غاية الاهمية وهي الفصل بين ما تستلزمه السياسية وما تستوجبه الكتابة.
لقد ظهر لي فيما اطالع ان الكتابة رأسية بالضرورة، أركيولوجية ( شغل حفريات)، وهي أيضا كالارابسك؛ نمنمة وتفاصيل ودقة والتفات للحواشي والهامشي وهذا الاهتام بالجزيء مرده الالمام بالصورة.
لقد طالعت ما تكتب محاذايا أو مجانبا أو أحيانا- في الفترة الأخيرة- عن بعد ، ولقد وجدتني علي بعد من أخر انتاج؛ فالمسألة التي تتناولها الكتابة في كتب عدة بدأت أفقية وتعطي الصورة في مجمل مقتضب، كاللقطة البعيدة لا تجسر علاقة حميمة بالمكان ولكن تعطي تشريحا أو بلغة الطب تعطي الهيكل العظمي الذي هو واحد في كل الاحوال .
وهكذا شغل هو انطباع مختزل وعابر في حياتنا، قد يكون هام عند مؤرخ يبحث عن مؤشرات سببية لنتائج بحثه.
لكن ما تؤمي به كتباتك في أولها ما يمكن تؤيله بالخارطة المفصلة للموضوع، فكأنه سيرة ذاتية للموضوع في تقديري ، لهذا فكتاب كهدرزة بنغازي ودكان الشائب هما كتابا الموضوعة الواحدة ونسج علي المنوال ، منوال المدينة الحية التي نبضها ما يجس من خلال تفاصيلها التي يمكن جسها لكن لا يحاط بها .
لو تابعنا هذه الكتابة في غير هذين الكتابين، سنجد أن الروح الاصيلة قد تفتت في أغراض أخر ليست من جنسها، لأنها وان تماست معها لكنها شكلت قطيعة، ففي كتابي بنغازي وقد يكون في سهاري درنة لم يكن الغرض من الكتابة مستهدفا في ذاته كما الكتابة، ولكنه من نسيج الموضوعة، وحتى علي مستوي بين وظاهر تبدو الكتابة الاولي في علاقتها بذات الكاتب أصيلة.
لكن في كتب مثل غمق زلة وأيام طرابلسية هناك ينفلت الموضوع من نفسه ويتبدد في أغرض خارجة عنه .
بمعني أن ما كتب عن بنغازي المدينة وبشكل ما عن درنة هو التاريخ السري للمكان الذي مستودعه الذات، وهنا تتجلي الاضافة والاثارة والمتعة المتحققة في التماهي بين الكاتب وموضوعه أساسا، ويبدو تجنيس شغل كهذا عصي علي الباحث كما هو ليس من مشاغل الكاتب .
لن اقفز لخلاصة بينة أنك ابتعدت عن موضوعك فيما بعد، وأن المؤرخ قد كبلك بحيثيات ليست من بوادي شغلك، ولن اصدر حكم قيمة حين ارصد أن الصدي الذي انتجته الكتابة الاولي غير الاخيرة .
في كتابي هدرزة في بنغازي ودكان الشائب يتبين أن ثمة طبقات تم كشفها بحفائر علي سطح ذاكرة موشومة بالنسيان، وظهر أن نسيان كهذا هو أيضا وشم في ذاكرة كهذه . لقد تم مس الخيط العاري في كهرباء جسد المدينة التي تبدو كما جثة صابها الوهن، وأن الرصد استخرج حالة موات ، فهذه الكتابة كأنها قشع واستبصار وهذا من لزومه الاستدامة في البحث حيث أن التمثال يكمن في الصخرة وأن المنسي في الطين .
لا يعني هذا كما يمكن ان يخطر للبال في الوهلة الاولي، أن الكاتب ملزم بهذا عن ذاك، لكن البين ان الكتابة تلزم هذا عن ذاك، فالنصوص المعنية هي التي تبدو كما حفر لم تبان تضاريسه بعد ، وأنها تؤشر إلي كونها كشف اولي .
النهج يلهج بأن فصاحته لم تتبين بعد وأن ما ظهر من الجبل هو غمغمة توميء ولم تفصح .
لذا أعتقد أن هذا لسان حال الكتابين الاولين وتابعهما سهاري درنة، فيما غمق زلة وأيام طرابلسية انطبعات مؤرخ موصولة بكتابين ظهر منها : هذا الوطن الذي يسكننا الكتاب الذي هو بيان في الهوية السياسية أكثر منه بحث في التاريخ ، ويستمد جدارته من هذا .
لكن الكتابين الأولين ليسا من البحث في شيء و لا يرسما خارطة لأي طريق؛ انهما أركيلوجيا النفس ان شئنا الابتسار، أو أنهما اشراقة المكان في الذات الموصومة به، فما يتجلي هو الخفي هو صيرورة الذات في مكان بعينه.
وما يستطلع من بساطة ظاهرة في النص توكد المستويات المتعددة لاوجه القراءة أكثر مما توكد سهولة النص وشعبية تداوله، وكذا روح الصحفي مؤرخ اللحظة الظاهرة تستحث القارئ علي غير العادة: أن لكل قارئ قراءة ، فكما ظهر من ردود أن الكتابين أثارا زوابع همها التفاصيل وليس المجمل، وهمها الخاص بعينه وليس النص .
فالنصوص الماثلة تثير الغبار وينبثق منها عجاج تعج به الوقائع : الواقع المعاد تشكيله بأدوات ذاتية محض كثيرا ما نظر لها نظرة عجولة فضائحية مشغوفة بصحف الحوادث.
أما تضاريس الروح التي تبان في هكذا نصوص فإنها توكد ضرورة الحفر بإزميل مضاد حيوي لرشح العجالة، و لا يصابه العطب من ردود الافعال.
هكذا فإن كتابك الذي ظهر في جزئين: هدرزة في بنغازي ودكان الشايب صفحة من كتاب لم تكتبه بعد، لكن هذه الصفحة تبدو كما خطاطة بارزة المعالم لهذا الكتاب.
ولم ار فيما طالعت تاريخا اجتماعيا أو بحثا في التاريخ أو وقائع .. الخ مما ووجه به الكتاب من مناقشات علي سطحه، الذي أظهر بعض من المعلقين عليه كقطة علي صفيح ساخن؛ شغلها التصحيح والتنويه وحتى التلصص من الثقب الذي تجسد في الباب.
ان أهم ما تثيره كتابات كهذه النقصان لأنها كتابة حياة في صيرورة، فالماضي فيها حي يلهث في النفوس والحاضر مسرح يعج بالماضي فيما المستقبل يدق الباب علي عجل .
من هذا رأيت الكتاب الذي نشرته في جزءين فاتحة وفاه مفغور كفويهات بنغازي هي مداخل لكنها ليست المدينة، المدينة كبنغازي حفريات تكشف عن طبقات جيولوجيا متحركة، والكتابة عن الزلزلة التي تكون المدن نمنمة تعيد تكرار ما تغزل في مسدة تظهر المعتاد ما يخفي المتفرد .
هكذا هناك فرادة متكررة تلزم النسج علي المنوال كي تظهر هذا الفرادة ، ما يتجسد في تفاصيل توضحت في الكتابين – اشرت اكثر من مرة أنهما جزاءن من كتاب واحد – تأخذ بلب الموضوع كما تأخذ بلب النفوس عن الموضوع وتدك بها في حمي التفاصيل .
ولن افصل ما فصل في الكتاب أو في الردود من شغب التفاصيل، التي هي المدينة أو الحياة مشروطة بتجمع كل فرد فيه مفرد بصيغة الجمع.
هكذا كتابة همها المعمار البشري وما العمارة وعمار المكان إلا تظاريس للروح، فهل بمقدورنا رسم هذه التضاريس دون حفر مستدام، حيث أن اتكأة واحدة لا تكفي لرسم المشهد ما يلفه عجاج الحياة، وحيث ثمة خطوة في الاتجاه .
ثمة في الكتابين حميمية مماحكة مع وقائع تبدو مبذولة وعلي قارعة الطريق، واقتناص صائد غزلان فارة، وصب مادة صلدة في حفائر دعكها النسيان ، وما يمكن اعتباره من نافلة القول هو الحجر الاساس في الكتابين، لأن التفصيل هو الثوب الذي يخرج جسد الحكاية من نواة المسرود اليومي والمعتاد ،واعادة اعتبار للمبذول والمستهان به في المعيوش، وهكذا من اللزوم القول أن شيطان التفاصيل لديه الكثير، وأنه يكمن كحالة ابداع تستعيد ما استعيض عنه وتعيده حيا يشغل الناس كما لو أن ما كان سوف يكون.
وهذا ليس نوسوتولجيا المكان ووقائعه، لأن استعادة التمشهد استعادة للحي من الميت ، فليس كتابة كهذه خارطة لتضاريس جبانة وشواهد قبور بقدر ما هي تشديد للضوء كي تستبان الظلال .
والسلام مني
بنغازي : ‏الاحد‏، 07‏ سبتمبر، 2008

ليست هناك تعليقات: