الأسطى في عين موبايلي
سأحاول هنا أن ألعب دور المصور حيث تسنى لي في لحظات أن أتخلي عن مسئوليتي في لجنة مهرجان الأسطى في دورته الأولي ، وهكذا كنت التقط صوري بجهاز موبايلي ، كنت كمن يهرب مما يثيره مهرجان كهذا من عواصف – كالعادة ..
خاصة وأنه لم تعد تستثيرني لعبة سلم الموسيقي هذا ، فالمشهد بات مكررا هذا يطلق وهذا يشد ، هذا يقول الشيء ويقول نقيضه . وهذه الزوبعة لا تنتهي إلا لتجر معها زوبعة .. كنت أهرب من هذا الفلم الهندي الذي يستدر الدموع و لا ينتهي ، كنت التجئ إلي جهاز الموبايل حين ألتقط أنفاسي مراقبا الأصدقاء والزملاء في لحظاتهم الحية والعفوية .
إذا هذه اللقطات الطليقة كانت كما عصافير حية تلتقط بعين الحب ما ترى..
وإن لم يكن أحد أخر في مجال عين موبايلي فبطبيعة الحال لا يعني أنه لم يكن في عين المكان؛ عين قلبي ، لهذا سيجد لي كل من لم أذكر العذر لأنها زلة موبايل ، وكل زلة مغفورة ، فالتحايا والعرفان والاعتذار لهم جميعا أحبائي .
شاعرة في عفويتها أسرت الأسطى، محنكة وبدربة العصافير تتنقل بين الأمكنة متخذة زاوية كركينة ترصد وتطلق عصافير مداعباتها الحرة كما نزوة عابرة ، لم تتكيس الرصانة ولم تلتحف العبث لكنها بثثت جذوتها، كانت كما تحب أن تكون لهذا كانت كما لو كانت بنت هذا الزمن التي لها وشائج مع درنة ، ولها مع آل الأسطى التاريخ ، في خفة كائن لا تحتمل نشرت روحها في المكان.
وكأن كل من كان هنا – في بيت درنة – لا يعرفها منذ زمن وحسب ولكن يعرف أنها في بيتها ،
هكذا حواء القمودي وهي تفرش أوراقها علي محفة ركح المسرح الوطني – درنة ، في ليلة الأمسية الشعرية ، الشاعرة التي تصطاد اللحظة كي تكتب قصيدتها حية طازجة وطفولية معا .
الضحكة هي قناع وجهه الذي يجعل منه ملك المكان غير المتوج ، كان في ما سبق قد حاول التمثيل، لكن ضاق به الركح ، فمكانه مسرح الحياة ، لهذا نكه المهرجان بذائقته ذات النكهة الضاحكة، جعل المكان عبقا به من حرفته التهريج هذا الجاد حتى الصرامة.
لولا رضا بن موسي كان الأسطى كئيبا
لولا هذا المهرج الشفيف لما كنا جادين كما يلزم
لولا بن موسي غصت حلوقنا بالجدية
لولا هذا الشاعر ما تسنى للشعراء أمسية
لولا رضا
لولا رضا ما كنا راضين عن أنفسنا في رحاب الأسطى .
هكذا سميناه عبد النائم ، كنا معا : يوسف الشريف ورضا بن موسي ونوري عبد الدائم وأحمد الفيتوري وفتحي الشويهدي وسالم العوكلي والأخيران تركانا في الليلة الأخيرة دون مبرر- في بيت في سانية عند مدخل درنة قرب البحر، هكذا رفيق ليل كان ، أضحي ضحية نوم حتى الضحى ، متسربلا بالكسل متخذا من الأسطى فرصة كأنه لم ينم ولن ينم ، متحمسا في غير ذلك تحمس الجالس في التربونة، كما لو كان المتفرج الوحيد الذي لولاه لما تم المشهد .
نوري عبد الدائم – الممثل والمخرج المسرحي والصحفي – أطلقنا عليه لقب عبد النائم بجدارة يحسد عليها ، حيث علي محياه ابتسامة دائمة وماكرة لأنها توحي في كل لحظة أنها ابتسامة خاصة بك ، لهذا مميزا كان في مكان الأسطى الذي كان في ظله؛ الظليل .
كما يقال لمطربي الراب الشاب خالد مثلا يمكن القول الشاب يوسف للراب : مهرجان الأسطى ، في الافتتاح في بيت درنة حضرت الحضرة فحضر نقيب المداحين في زاوية عيساوية أو أسمرية ، منذ اللحظة الأولي وكعادته عفويا طليقا، لا يقيده قيد الرصانة ، دون أي ادعاء أو تملق يلتقي اللحظة ويسرح في المكان كما لو أنه ولد فيه وعاش عمره المديد بين جوانبه .
يوسف الشريف من عيوبه أنه محب لمن يحب حتى الثمالة، لهذا بدأ في باحة الأسطى كما لو كان بيت درنة بيته وأن الجمع ضيوفه .
مسترسلا في وجده انساب في الحاضرين ، لو أنه لم يحضر تغيب الأسطى عن نفسه ، كان لا بد منه ملح الطعام هذا المدعو يوسف الشريف كي يكون للأسطى طعمه الحاذق هذا الذي استطعمه الحاضرون.
الفنان كما ظل الشجرة الوارفة لا يراه الناس ؛ لكن الحصيف منهم لا يري الشجرة إلا من ظلها الذي هو الوارف .
كذا كان ليزي فنان المزمار الدرناوي الحصيف ، لم يتغيب عن بيت درنة لكنه كان الغائب في ظل الأسطى ، ليزي الذي كان مزماره يسكر محبي خمره أو عزفه ، كان العزوف عن الضوء في حضرة الأسطى ، يشع داخله في هذه الحضرة ، يشع صمته في نفس الزاوية وعلي نفس الكرسي
هو المسكوت عنه في كل ألحان الأسطى.
أسرني هذا الرجل الذي بأسره حقا يجلس وحيدا.
لا يكل و لا يمل، يفعل كل شيء ، صغير القوم عند العمل ، خادم الأسطى ، مدير البيت ، مدبر الأسطى ، في كل مكان وكل الوقت كما لو كان منه عدة مستنسخين.
هو سالم العوكلي كما لو كان ليس من آل الثقافة ولا الشاعر..
تمنيت لو رأيت هذا الرجل زعلانا أو برما
أو رأيت مسوح المدير تلبسه
لقد شلح نفسه ولبس مسوح الأسطى كي يكون الخادم ؛ فهل حقا أن خادم القوم سيدهم ؟ ،
كان الخادم لأنه يحب ما يفعل، وكل محب في حضرة حبه خادم.
هذا المحب تجلل بالأسطى لهذا كان الأسطى.
يعرفه الجميع و لا يعرفه أحد ، كما صمت الكمان الذي يهدر فينا ، وكما جبل لا تهزه ريح ، لا يفعل شيئا يري لأنه يفعل ما لا يري ، ينجلي في خفاء ، ينحت في المكان وجوده كما نقش أو نأمة في سجاد فارسي ، يناء عن الضوء كي لا يري ما يفعل أو كمن يرسل حبه في سر عن محبوبة ، هو السر الذي يعرفه كل أحد كما الحضور الغائب عن النظر ، عند الأسطى لا يغيب عنه وإن بدأ كما الموجود اللاموجود.
رجب الهنيد هذا الرجل لم يستطع أحد إلا أن يحبه كان المحب للجمع في الأسطى.
لو لم يحضر لحضر غيابه ، هو في مثل الأسطى لا يغيب ، من لا يتمكن من الغياب عن الأسطى كان في تعب لهذا أتعب تعبه منه كي يكون في الأسطى ؛ فيه قلق المتنبي الذي أقلق قلقه منه ، لم يتجلي كعادته لكن لم يسمح للتعب أن يرهقه أو يبعده عن قلب الأسطى .
لقد نحت في قلبه أن يكون كالأسطى في المكان؛ ينحت وجوده في المكان ، وعند الحضور الحاضر.
لهذا إدريس المسماري حمل ما لم يحمل الجمل كي يكون في عين المكان وفي الوقت .
دأب أن يحاور ويتحاور مع الأسطى كما عادته ، أحب أن يكون في عين المكان في جدل بيت درنة الثقافي ، في المتن كما علي الهامش يطلق ابتسامته كي يفسح الطريق لأرائه ومجادلاته ، متنه البلاد في أطيافها ، طيفه يحضر في اللحظة وفي المكان ، سرح في الأسطى فالبيت بيته والمجال مجاله والتفاصيل تفاصيله ، لهذا كان يتابع بدأب كل ما يحدث مشاركا في تشكيل لوحة الحدث، وفي مثابرة نسج من ذاته لوحة المكان .
حسين المزداوي لا يلحقه كلل كي يبث محبته للآخرين، فالآخر عنده هو أنا .
يوسوس في صدور المكان خفة لا تحتمل وبأسره يمشي الهوينة، يندس فيك بسلاسة ضحكته العابثة، هذا الخليع يخلع رصانتك وادعائك كي تكون أنت أنت ، حين يكون في الأسطى يكون هنا وهناك ، لم أراه في مكان لأنه كان في كل المكان ، يشخبط ويلخبط لوحة المكان كما لو كان يرسم كاريكاتير، ليس مع أحد لأنه مع كل أحد ، هو السهل الممتنع يشكل المكان بروح يقظة وهو السارح في خلائط نفسه ، يضفي علي المكان عبثا جادا لهذا لابد أن الأسطى قد تململ في قبره لأن فتحي الشويهدي قد ورث روحه وإن في طفولة آسرة.
ليبيا يا نغما في خاطري كانت الأسطى، فالأسطى محمد نجم أراد أن يعود في يوم الأسطى هذا ، لهذا كانت ليبيا نغما في خاطر الأسطى في المسرح الوطني – درنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق