1 - بورتريه التوق
[ ايها الغد الجميل بالرغم من ان عمري مئة الف عام لكن ما زال بمقدوري أن انتظرك هذه هي الجملة التي كان عبد العزيز الغرابلي 1947 - 28 يناير 1984م .،يكتبها لاصدقائه ويخطها وهي نبراس حياته .]
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة
هناك يجلس الرجل الذي كل ما فعله أنه لا يرحل؛ لأنه من صناع المستقبل الذي عنده يكون مثل هؤلاء علي موعد ، هؤلاء الذين هم أهل التوق.
كنا في بورتابنيتو أو سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب حين التقينا عام 1981م ، رجل به سمرة ومفتول الجسد وبه بسمة لا تفارقه ، من اللحظة لاحظت انسيابه في المكان وفي نفوس البشر ، كطائر السنونو يحوم في كل ركينة من المكان وفي زوايا النفس ، تارة يحدث هذا تارة يضحك هذا تارة يغزل منديلا وينقش فيه بيت شعر غزلي تارة يصنع بأصابع رشيقة الأمل لسجين شده الشوق ، تارة يأخذه المرض فيغالبه حتى يغلبه .
في الساحة لا مطرح له؛ في حركة تقطع اوصال السكون ،متدخلا في حل مشكلة وعراك بين زملين من السجناء طبعا، أو في نقاش احتد كي يعيده لهدؤ وروية .
هناك تجمع واجماع حول عبد العزيز الغرابلي الذي يبدو كما راهب في محراب الحب ، ويصلي ركعاته في هذا المحراب بالتأني والسلامة وبقلب مفتوح لكل أحد ، كثيرا ما دخل في عراك وبصرامة كي ينهي عراكا وكغربال ينخل ما في النفوس من ضغينة ومن ضيق المكان ، يصير ساحة السجن لقاء الصباح في مقهي الغزالة تحت شجرة ياسمين والقهوة بالسكر زيادة تفوح المكان ؛ يقول الطبيب – الذي هو زميله محمد المفتي في القسم الثالث من بورتابينيتو : لا محالة هو ميت ومرض الكبد فاعل فعله – سكر زيادة يطلب زيزو قهوته في مقهي الغزالة الذي أنشائه من جراب مخياله في ساحة السجن ، ويجني من محصول الخضار ما زرع - من كني بالكنغ – عبد الله القمودي الذي عشق من خلف القضبان امرأة تسكن في شقة قبالة السجن ، وكان زيزو عضيده في هكذا حب .
كنا نجلس في ظل الحائط ونصارع الزمن بالكلام ،زيزو كثيرا ما يناقش أي فكرة في استطراد يقطعه بالتهكم والسخرية أو القاء نكتة لم تقل الا ألف مرة من قبل فلما لا تكون ألف مرة ومرة ، هناك لم يكن ثمة قديم ؛ الزمن علي الحياد كما أن الاعادة - كما غربلت الدقيق- تصفي.
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة.
مطرحه ليس الذاكرة فحسب و لا النفوس فقط فهو في كل مطرح ؛لأنه غزل نفسه في الحياة حين كان في الجامعة طالبا نشطا فعالا ، وحين كان في السجن يزرع البسمة ويغزل القصائد علي المناديل، ويصنع مما متاح ما لا يتاح ما يريح كالكراسي مثلا أو جراب الحوائج أو طاولات تصنع من علب السجائر.. ويجلد الكتب التي هي من تأليف زملائه والمكتوبة علي ورق السجائر .. وكذلك يكتب ويرسم أغلفة لكتب ولوحات .. أو يشارك أحدهم ممارسة الرياضة وحتى المصارعة منها .
ولانه دخل السجن تلميذا جامعيا بقي تلميذا مجدا في السجن ، فهو يطالع الكتب والمعرفة من زملائه، كما لو كان يطالع كتبه الجامعية، أو في مدرج ينصت لاستاذ في درس من الدروس .
يجول في الخاطر كما كان يجول في السجن الذي حوله إلي حياة أخري ، ويسوس فيقود بسلاسة مع زملاء له اضرابا عن الطعام بتؤودة ومهل ، تحدثنا كثيرا حول هذا الاضراب فقد كان أمرا ليس هينا ، لكنه بحنكة متمرس أخذ النقاش إلي غربال الوفاق .
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة.
لكنه في عين المكان في عين الزمان يبعث بسمته ويشاطرنا الحلم ما زرع فنحصد ولو بعد حين ...
2 - بورتريه الغرابلي
أسمر سديد السمرة قصير القامة لا تفارقه بسمة هي بياض الوجه السمح، مسبوك البدن كما رياضي، حركة دائبة كما عش نحل يسكن البدن، يداه يدا محترف يدوي الانشغال، حتى الفكر عنده مشغل، لذا كثيرا ما عبر عن فكرة بمنحوتة أو شكل لوحة وفي حين طرز منديلا ببيت شعر .
عاشق للآخر كما لو كان نفسه، وملح علي أن هذا الآخر نفس حرة تمنحه وجوده.
يختلك بهدوئه وينساب فيك كالظل، هو ليس دمثا و لا عجولا و لا علي دراية بأمره و لا يشغل نفسه بأمور الساعة، لكنه نسغ الحياة وجذوره عميقة الغور في المكان، لا يلهيه شيء عن الانسياب في الزمان حتى الوقت نفسه لا يلهيه، كأنه الحياة ذاتها ترتع في غوط الحياة .
يهدر و لا هذر، قليل الكلام كثير المعاني.
يربط ظهره بذراعيه في كثير الوقت وهو يجول في الساحة، كأنه يخاف أن ينزلق من نفسه التواقة للآخرين، لذا أسر النفوس التي عرفته والنفوس التي لم تعرفه بعد كان مؤسرا شديد الخفة علي الروح أو أنه أم رءوم وأب حنون وأخ جسور ،دون ادعاء أو تملق، لهذا كان أمره صعب المراس علي نفسه أولا وثانيا روحه وثالثا علي جسده.
- أنت لديك تليف الكبد
- أليس مرض كذا يصاب به السكارى
- نعم
كانت روحه سكرانة دائما بالحياة ومخمورة بالمحبة المركزة ، روحه من نوع الفودكا أو التاكيلا ، لم يشرب الخمر لكن هذا ما حدث؛ مصاب بتليف الكبد كان عبد العزيز الغرابلي حين شخص الطبيب محمد المفتي مرضه في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ، في العقد الثامن من القرن العشرين، حيث كان يقضي حكما بالمؤبد بدعوى انتمائه لحزب تروتسكي يهدف لإسقاط نظام الحكم .
لم ينتبه مرة أي أحد لمرضه كان ينسيك مرضك ويتسرب فيك كهواء منعش،يرسم قصائد أصدقائه ، ويصنع هداياهم لمحبوباتهم المفترضات،ويجول هنا وهناك بحثا عن أي شيء حتى ألا شيء كي يصنع هدايا لأعياد ميلاد زملائه في السجن أو أبنائهم أو أعياد زواجهم دون تفريق، لذا كان المختلف الذي لم يكن علي خلاف مع أحد .
معجون من ابتسامة دائمة لا تفارق محياه خاصة في الظرف الصعب،وهو خلائط من غضب المظلوم وحليم كمتصوف، يمشي في ساحة القسم الرابع في سجن الحصان الأسود ضحى كل يوم بتؤدة متأملا فسحة الزرقة مستنشقا رحابتها زوادة للزنزانة الضيقة التي تضمه وأكثر من عشرة أنفس، في الزنزانة يبث رحابته من تلكم الزوادة، يخترع العاب ورسوم وحكايات فيحول الزنزانة إلي فسحة زرقاء وفضاء يسع ضيق النفوس السجينة والأجساد المنهكة،ثم يستحلب مطر الذاكرة عند زملائه كي يغادر بهم المكان إلي سماء الذاكرة التي أفقها كما أفق البحر .
البياض لوحة هذا الأسمري السحنة؛ يطرز المناديل بعبارات شعرية ليهربها زملائه لمحبوباتهم، يرتق الثوب البالي ويوزع ابتسامته دون كلل، بخطه الجميل المميز يخط دروس الزملاء، عند حدة النقاش يذهب عنك كي يجئك باشا، مسرورا - بحدة – بك،ويخترع حكاية كي يستمطر ذاكرتك بما تشتهي أن تستعيد منصتا لمسرودك، يغالب جسده المريض ونفسه الموجوعة كي تخرجا معا من السجن كطيرين، مرشدا لك حين تهب ريح الحنين وتغلبك القضبان.
كنا معا في القسم الثالث في الزنزانة الرابعة، في سرير حديدي واحد هو في السرير الأعلى،نتبادل الحكايا وأسمع ما حفظ من قصائد، وأنصت دون أن ينتبه لأنين مرضه عند نومه أحيانا،وأنظر لاصفرار وجهه حين لا ينتبه وتنقشع بسمته.
بادلني قصة حبه يوم عاد من عملية جراحية أجريت له في المستشفي بشكل ضيق وعلي عجل،أخذ يقول لي هل تذكر قصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن اسماعين الذي كان قد عاش حياته كلها جوعان ، هل تذكر اسماعين ذاك أنا، اسماعين بعد جوعه شبع مرة ونام تحت جميزة ومات.
شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
كان قد عاد من المستشفي وشاهد الشوارع وغيرنا من الناس، وقعد في غرفة وحده وان بحرس وكلبشة، وزاره بعض من يحب، وعامله حرس بشفقة، وتنسم هواء عليل، ووجد اهتمام من ممرضات وطبيب تشيكي: شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
مات عبد العزيز الغرابلي، فعلا كما ظنه، مات بعد أن عاد من المستشفي.
كنت أصارعه، نلعب كالعادة ولكن بتؤدة كي ننسى المرض والمستشفي والسجن وظنونه، فجأة تدفق دمه من فاه، عربد المكان من ألم فقد أخذ للمستشفي حيث لن يعود لزنزانته بل إلي مدينته الزاوية حيث دفن.
لم يكن الطير علي الرؤوس كان الحزن قد خيم والليل قد عسعس، لم ينم أحد في القسم الثالث في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ليلتها،ليلتها كانت النفوس مكلومة ، وفي حفل التأبين الذي أقيم عبر وصول خبر وفاته انقشع الحزن فقد استعيدت بسمة عبد العزيز الغرابلي، الجميع كانوا واحدا يرثون عبد العزيز بروح غامرة بمودة عارمة لتلك الابتسامة التي لم تفارقه مرة.
3 - بورتريه آسيا
ما الذي يجعل امرأة قارة ، من الذي يؤله النساء ، كيف تكون امرأة من النساء وتكون كل النساء ، من المرأة التي ليست كالنساء وهي النساء أيضا ، ما الذي يجعل الماء ماء والماء كل شيء، من تكون امرأة من الناس ككل الناس ومصطفاء منهم ، من آسياء قارة القارات وحبيبة واحد أحد ،ما الذي يجعل امرأة تروم المحن وتمنح مضداتها الحيوية للوجلين ومن بهم وهن.
كيف تسن أن تكون امرأة رؤم وأم حنون وصديقة . كيف لها مخاتلة النفس التعبة والنهوض بأعبئها دون كلل. كيف لأمرأة لا تكل ، لا تمل ، لا تعرف الوهن وقد حاطها الزمان بكل رعوناته.
كأن آسيا – هكذا اسمها – القارة الكبرى ؛ الأخت الأكبر كأنها المرأة الأولي، حواء من روضت الدهر كي نكون، أو أنها الابنة الاولي لحواء من تنسمت المكابدة ولطفت أجواء الدهر علينا، من عصرت كبدها كأكسجين للنفس متى ضاقت النفوس بنا.
جالت في أيامنا دون أن تدري كدواء لمحنتنا واتخذناها قدوة .. وقدة .. وتمترسنا بها في وجه جحافل الظلم؛ كاضمين لأجلها ضعفنا، فآسيا قارة مقتدرة، وان وهن العظم منها كانت رئة كل ذي نفس ضيق وكل هلوع وغير مقتدر .. ذاك دون أن تدري وطبعا نحن غير دارين و لا مدركين كم هي فينا قوة، تعصرنا وتعصمنا في وجه الظيم الذي حاقنا لحقب، وحقب بنا كما الزلزة التي لا تريم و لا تأخذها سنة رحمة و لا تنام .
ان لم ينم الظلم فلم يأخذ آسيا وسن علي الظلم و لا عن أحبابها في دين الحرية.
امرأة غير ملول ، امرأة غير كلومة ، غير هلوع ، امرأة تحب الناس للناس ، تحب الناس وفي هذا ليس بمستطاعها التغيير فلم تكره حتى المكروهين ، حسبها أن تحب لا أن تحب حسبها أن تمنح حسبها أن تبلسم الجراح .
اذا وقب غاسق وحسد حاسد فعينها تعويذة للمقهورين هي في الناس كافة، هي امرأة تذوذ عن الحياة وحسب.
لا أعرف صنوا للقارة هذه ، للصمد غير أخ شقيق روحها من امها وأبيها يدعى عبد العزيز الغرابلي؛ من كان روح بسمة.. فجسده تبدد في بسمة لا تفارقه ولم يفارقها حتى ساعة حاصره من الأمام المرض ومن الخلف السجن.
لقد غربل الزمان الذي أعيش نفسه في غربال شمس كي يضيء حياتي ومن كانوا و لا زالوا رفقتي، بآسيا هذه وصنوها عبد العزيز من ذهب في رحلة الدهر المعهودة، تاركا فيّ ومضة لا تنطفيء، وتاركا لنا كفا ظليلا في حجم كف آسيا.. حناء رطبة وندى أنعش أروحنا من جفف حلقها السجن وحليفه الضيم .
كأن آسيا امرأة خلقت كي تكون مظلة تسد عنا فعل الضيم في النفوس ، كي توقظنا من سراب النفس العطشة للحياة، النفس التي زنزنت عن الحياة.
أي آسيا يا أم جمانة رمان الروح الطليقة، وسعدون؛ الفتى الذي يحمل اسم شاب ليبي صرع البغي الايطالي ولم يصرع وان كان من الميتين ككل الناس، أول مرة جلت عليّ في حديث في زنزانة في سجن بورتا بينتو؛ كان زوجك الآن وحبيبك دائما يذكرك كما يذكر المغيث ، فأغثنا بك، لم تكوني في حكاية من حكاياته الكثيرة التي تعرفين.. كنت الحكاية ؛ عبد الحميد البشتي الرجل الغلاب غالب السجن بك فينا، منحنا من روحه أنت ما لم تمنحنا أرواحنا المنعمة بآمال توهن غير المتيقظ، وتنعس الشغوف عن ما به.
عبد الحميد كما عبد العزيز يعرفانك فعرفناك، ولم تكوني ظنا، كنت اليقين الذي يصبغه الزمان كالنبيذ أو الحناء تبات ليلة كي تتوقد في صبحها.
[ ايها الغد الجميل بالرغم من ان عمري مئة الف عام لكن ما زال بمقدوري أن انتظرك هذه هي الجملة التي كان عبد العزيز الغرابلي 1947 - 28 يناير 1984م .،يكتبها لاصدقائه ويخطها وهي نبراس حياته .]
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة
هناك يجلس الرجل الذي كل ما فعله أنه لا يرحل؛ لأنه من صناع المستقبل الذي عنده يكون مثل هؤلاء علي موعد ، هؤلاء الذين هم أهل التوق.
كنا في بورتابنيتو أو سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب حين التقينا عام 1981م ، رجل به سمرة ومفتول الجسد وبه بسمة لا تفارقه ، من اللحظة لاحظت انسيابه في المكان وفي نفوس البشر ، كطائر السنونو يحوم في كل ركينة من المكان وفي زوايا النفس ، تارة يحدث هذا تارة يضحك هذا تارة يغزل منديلا وينقش فيه بيت شعر غزلي تارة يصنع بأصابع رشيقة الأمل لسجين شده الشوق ، تارة يأخذه المرض فيغالبه حتى يغلبه .
في الساحة لا مطرح له؛ في حركة تقطع اوصال السكون ،متدخلا في حل مشكلة وعراك بين زملين من السجناء طبعا، أو في نقاش احتد كي يعيده لهدؤ وروية .
هناك تجمع واجماع حول عبد العزيز الغرابلي الذي يبدو كما راهب في محراب الحب ، ويصلي ركعاته في هذا المحراب بالتأني والسلامة وبقلب مفتوح لكل أحد ، كثيرا ما دخل في عراك وبصرامة كي ينهي عراكا وكغربال ينخل ما في النفوس من ضغينة ومن ضيق المكان ، يصير ساحة السجن لقاء الصباح في مقهي الغزالة تحت شجرة ياسمين والقهوة بالسكر زيادة تفوح المكان ؛ يقول الطبيب – الذي هو زميله محمد المفتي في القسم الثالث من بورتابينيتو : لا محالة هو ميت ومرض الكبد فاعل فعله – سكر زيادة يطلب زيزو قهوته في مقهي الغزالة الذي أنشائه من جراب مخياله في ساحة السجن ، ويجني من محصول الخضار ما زرع - من كني بالكنغ – عبد الله القمودي الذي عشق من خلف القضبان امرأة تسكن في شقة قبالة السجن ، وكان زيزو عضيده في هكذا حب .
كنا نجلس في ظل الحائط ونصارع الزمن بالكلام ،زيزو كثيرا ما يناقش أي فكرة في استطراد يقطعه بالتهكم والسخرية أو القاء نكتة لم تقل الا ألف مرة من قبل فلما لا تكون ألف مرة ومرة ، هناك لم يكن ثمة قديم ؛ الزمن علي الحياد كما أن الاعادة - كما غربلت الدقيق- تصفي.
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة.
مطرحه ليس الذاكرة فحسب و لا النفوس فقط فهو في كل مطرح ؛لأنه غزل نفسه في الحياة حين كان في الجامعة طالبا نشطا فعالا ، وحين كان في السجن يزرع البسمة ويغزل القصائد علي المناديل، ويصنع مما متاح ما لا يتاح ما يريح كالكراسي مثلا أو جراب الحوائج أو طاولات تصنع من علب السجائر.. ويجلد الكتب التي هي من تأليف زملائه والمكتوبة علي ورق السجائر .. وكذلك يكتب ويرسم أغلفة لكتب ولوحات .. أو يشارك أحدهم ممارسة الرياضة وحتى المصارعة منها .
ولانه دخل السجن تلميذا جامعيا بقي تلميذا مجدا في السجن ، فهو يطالع الكتب والمعرفة من زملائه، كما لو كان يطالع كتبه الجامعية، أو في مدرج ينصت لاستاذ في درس من الدروس .
يجول في الخاطر كما كان يجول في السجن الذي حوله إلي حياة أخري ، ويسوس فيقود بسلاسة مع زملاء له اضرابا عن الطعام بتؤودة ومهل ، تحدثنا كثيرا حول هذا الاضراب فقد كان أمرا ليس هينا ، لكنه بحنكة متمرس أخذ النقاش إلي غربال الوفاق .
انه علي بعد خمسة وعشرين خطوة وبصيغة الزمن سنة.
لكنه في عين المكان في عين الزمان يبعث بسمته ويشاطرنا الحلم ما زرع فنحصد ولو بعد حين ...
2 - بورتريه الغرابلي
أسمر سديد السمرة قصير القامة لا تفارقه بسمة هي بياض الوجه السمح، مسبوك البدن كما رياضي، حركة دائبة كما عش نحل يسكن البدن، يداه يدا محترف يدوي الانشغال، حتى الفكر عنده مشغل، لذا كثيرا ما عبر عن فكرة بمنحوتة أو شكل لوحة وفي حين طرز منديلا ببيت شعر .
عاشق للآخر كما لو كان نفسه، وملح علي أن هذا الآخر نفس حرة تمنحه وجوده.
يختلك بهدوئه وينساب فيك كالظل، هو ليس دمثا و لا عجولا و لا علي دراية بأمره و لا يشغل نفسه بأمور الساعة، لكنه نسغ الحياة وجذوره عميقة الغور في المكان، لا يلهيه شيء عن الانسياب في الزمان حتى الوقت نفسه لا يلهيه، كأنه الحياة ذاتها ترتع في غوط الحياة .
يهدر و لا هذر، قليل الكلام كثير المعاني.
يربط ظهره بذراعيه في كثير الوقت وهو يجول في الساحة، كأنه يخاف أن ينزلق من نفسه التواقة للآخرين، لذا أسر النفوس التي عرفته والنفوس التي لم تعرفه بعد كان مؤسرا شديد الخفة علي الروح أو أنه أم رءوم وأب حنون وأخ جسور ،دون ادعاء أو تملق، لهذا كان أمره صعب المراس علي نفسه أولا وثانيا روحه وثالثا علي جسده.
- أنت لديك تليف الكبد
- أليس مرض كذا يصاب به السكارى
- نعم
كانت روحه سكرانة دائما بالحياة ومخمورة بالمحبة المركزة ، روحه من نوع الفودكا أو التاكيلا ، لم يشرب الخمر لكن هذا ما حدث؛ مصاب بتليف الكبد كان عبد العزيز الغرابلي حين شخص الطبيب محمد المفتي مرضه في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ، في العقد الثامن من القرن العشرين، حيث كان يقضي حكما بالمؤبد بدعوى انتمائه لحزب تروتسكي يهدف لإسقاط نظام الحكم .
لم ينتبه مرة أي أحد لمرضه كان ينسيك مرضك ويتسرب فيك كهواء منعش،يرسم قصائد أصدقائه ، ويصنع هداياهم لمحبوباتهم المفترضات،ويجول هنا وهناك بحثا عن أي شيء حتى ألا شيء كي يصنع هدايا لأعياد ميلاد زملائه في السجن أو أبنائهم أو أعياد زواجهم دون تفريق، لذا كان المختلف الذي لم يكن علي خلاف مع أحد .
معجون من ابتسامة دائمة لا تفارق محياه خاصة في الظرف الصعب،وهو خلائط من غضب المظلوم وحليم كمتصوف، يمشي في ساحة القسم الرابع في سجن الحصان الأسود ضحى كل يوم بتؤدة متأملا فسحة الزرقة مستنشقا رحابتها زوادة للزنزانة الضيقة التي تضمه وأكثر من عشرة أنفس، في الزنزانة يبث رحابته من تلكم الزوادة، يخترع العاب ورسوم وحكايات فيحول الزنزانة إلي فسحة زرقاء وفضاء يسع ضيق النفوس السجينة والأجساد المنهكة،ثم يستحلب مطر الذاكرة عند زملائه كي يغادر بهم المكان إلي سماء الذاكرة التي أفقها كما أفق البحر .
البياض لوحة هذا الأسمري السحنة؛ يطرز المناديل بعبارات شعرية ليهربها زملائه لمحبوباتهم، يرتق الثوب البالي ويوزع ابتسامته دون كلل، بخطه الجميل المميز يخط دروس الزملاء، عند حدة النقاش يذهب عنك كي يجئك باشا، مسرورا - بحدة – بك،ويخترع حكاية كي يستمطر ذاكرتك بما تشتهي أن تستعيد منصتا لمسرودك، يغالب جسده المريض ونفسه الموجوعة كي تخرجا معا من السجن كطيرين، مرشدا لك حين تهب ريح الحنين وتغلبك القضبان.
كنا معا في القسم الثالث في الزنزانة الرابعة، في سرير حديدي واحد هو في السرير الأعلى،نتبادل الحكايا وأسمع ما حفظ من قصائد، وأنصت دون أن ينتبه لأنين مرضه عند نومه أحيانا،وأنظر لاصفرار وجهه حين لا ينتبه وتنقشع بسمته.
بادلني قصة حبه يوم عاد من عملية جراحية أجريت له في المستشفي بشكل ضيق وعلي عجل،أخذ يقول لي هل تذكر قصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن اسماعين الذي كان قد عاش حياته كلها جوعان ، هل تذكر اسماعين ذاك أنا، اسماعين بعد جوعه شبع مرة ونام تحت جميزة ومات.
شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
كان قد عاد من المستشفي وشاهد الشوارع وغيرنا من الناس، وقعد في غرفة وحده وان بحرس وكلبشة، وزاره بعض من يحب، وعامله حرس بشفقة، وتنسم هواء عليل، ووجد اهتمام من ممرضات وطبيب تشيكي: شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
مات عبد العزيز الغرابلي، فعلا كما ظنه، مات بعد أن عاد من المستشفي.
كنت أصارعه، نلعب كالعادة ولكن بتؤدة كي ننسى المرض والمستشفي والسجن وظنونه، فجأة تدفق دمه من فاه، عربد المكان من ألم فقد أخذ للمستشفي حيث لن يعود لزنزانته بل إلي مدينته الزاوية حيث دفن.
لم يكن الطير علي الرؤوس كان الحزن قد خيم والليل قد عسعس، لم ينم أحد في القسم الثالث في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ليلتها،ليلتها كانت النفوس مكلومة ، وفي حفل التأبين الذي أقيم عبر وصول خبر وفاته انقشع الحزن فقد استعيدت بسمة عبد العزيز الغرابلي، الجميع كانوا واحدا يرثون عبد العزيز بروح غامرة بمودة عارمة لتلك الابتسامة التي لم تفارقه مرة.
3 - بورتريه آسيا
ما الذي يجعل امرأة قارة ، من الذي يؤله النساء ، كيف تكون امرأة من النساء وتكون كل النساء ، من المرأة التي ليست كالنساء وهي النساء أيضا ، ما الذي يجعل الماء ماء والماء كل شيء، من تكون امرأة من الناس ككل الناس ومصطفاء منهم ، من آسياء قارة القارات وحبيبة واحد أحد ،ما الذي يجعل امرأة تروم المحن وتمنح مضداتها الحيوية للوجلين ومن بهم وهن.
كيف تسن أن تكون امرأة رؤم وأم حنون وصديقة . كيف لها مخاتلة النفس التعبة والنهوض بأعبئها دون كلل. كيف لأمرأة لا تكل ، لا تمل ، لا تعرف الوهن وقد حاطها الزمان بكل رعوناته.
كأن آسيا – هكذا اسمها – القارة الكبرى ؛ الأخت الأكبر كأنها المرأة الأولي، حواء من روضت الدهر كي نكون، أو أنها الابنة الاولي لحواء من تنسمت المكابدة ولطفت أجواء الدهر علينا، من عصرت كبدها كأكسجين للنفس متى ضاقت النفوس بنا.
جالت في أيامنا دون أن تدري كدواء لمحنتنا واتخذناها قدوة .. وقدة .. وتمترسنا بها في وجه جحافل الظلم؛ كاضمين لأجلها ضعفنا، فآسيا قارة مقتدرة، وان وهن العظم منها كانت رئة كل ذي نفس ضيق وكل هلوع وغير مقتدر .. ذاك دون أن تدري وطبعا نحن غير دارين و لا مدركين كم هي فينا قوة، تعصرنا وتعصمنا في وجه الظيم الذي حاقنا لحقب، وحقب بنا كما الزلزة التي لا تريم و لا تأخذها سنة رحمة و لا تنام .
ان لم ينم الظلم فلم يأخذ آسيا وسن علي الظلم و لا عن أحبابها في دين الحرية.
امرأة غير ملول ، امرأة غير كلومة ، غير هلوع ، امرأة تحب الناس للناس ، تحب الناس وفي هذا ليس بمستطاعها التغيير فلم تكره حتى المكروهين ، حسبها أن تحب لا أن تحب حسبها أن تمنح حسبها أن تبلسم الجراح .
اذا وقب غاسق وحسد حاسد فعينها تعويذة للمقهورين هي في الناس كافة، هي امرأة تذوذ عن الحياة وحسب.
لا أعرف صنوا للقارة هذه ، للصمد غير أخ شقيق روحها من امها وأبيها يدعى عبد العزيز الغرابلي؛ من كان روح بسمة.. فجسده تبدد في بسمة لا تفارقه ولم يفارقها حتى ساعة حاصره من الأمام المرض ومن الخلف السجن.
لقد غربل الزمان الذي أعيش نفسه في غربال شمس كي يضيء حياتي ومن كانوا و لا زالوا رفقتي، بآسيا هذه وصنوها عبد العزيز من ذهب في رحلة الدهر المعهودة، تاركا فيّ ومضة لا تنطفيء، وتاركا لنا كفا ظليلا في حجم كف آسيا.. حناء رطبة وندى أنعش أروحنا من جفف حلقها السجن وحليفه الضيم .
كأن آسيا امرأة خلقت كي تكون مظلة تسد عنا فعل الضيم في النفوس ، كي توقظنا من سراب النفس العطشة للحياة، النفس التي زنزنت عن الحياة.
أي آسيا يا أم جمانة رمان الروح الطليقة، وسعدون؛ الفتى الذي يحمل اسم شاب ليبي صرع البغي الايطالي ولم يصرع وان كان من الميتين ككل الناس، أول مرة جلت عليّ في حديث في زنزانة في سجن بورتا بينتو؛ كان زوجك الآن وحبيبك دائما يذكرك كما يذكر المغيث ، فأغثنا بك، لم تكوني في حكاية من حكاياته الكثيرة التي تعرفين.. كنت الحكاية ؛ عبد الحميد البشتي الرجل الغلاب غالب السجن بك فينا، منحنا من روحه أنت ما لم تمنحنا أرواحنا المنعمة بآمال توهن غير المتيقظ، وتنعس الشغوف عن ما به.
عبد الحميد كما عبد العزيز يعرفانك فعرفناك، ولم تكوني ظنا، كنت اليقين الذي يصبغه الزمان كالنبيذ أو الحناء تبات ليلة كي تتوقد في صبحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق