الأربعاء، 30 سبتمبر 2009
الأربعاء، 23 سبتمبر 2009
أحمد الفيتوري
كتاب مكتوب لأجلك خذه بقوة
ثمة كتب ترهقني بشدة لأني أحبها أكثر مما يجب وبالتالي لا أعقلها، هذه الكتب في العادة تتدفق في عروقي كالدم وأشغف بها حد النسيان؛ تحيط بي و لا أحوطها ، تقتلع عيوني من محاجرها ، ثم يصل وصلي بها حتى أحب أن يطالعها الناس كافة؛ أحبتي علي الخصوص ، لهذا أحيانا أخطي فأسلمها لمن يؤدها ، تضيع مني وأصاب برشح الحسرة الذي يخثر غيضي ، اصدر لنفسي أمرا صارما بأن لا أمنح لأحد أيا كتاب ، هذا الأمر القاطع يقطعه أول كتاب يرهقني بشدة لأني أحبه أكثر مما يجب وبالتالي لا أعقله .
ثمة كتب كثيرة أرهقتني كأنها الجمال؛ الجمال حاد الطابع يأسرك وأنت في شغف ، وبالتالي لن تنفك منه لأنك مشغوف بأسرك هذا ، فإن سلبت حريتك منه سلبت عقلك ، لهذا لن تراه لأنه فيك ، والمرء لا يري نفسه جيدا حتى في مرآة؛ اسواء أنواع النقد.. النقد الذاتي ، فإنه نقد محابي لا يري شائنة فيك، مدعي متملق هذا النقد الذاتي.
كما لو كانت مرقونة علي صفحات قلبك مثل هاتيك الكتب، التي كتبها من كتبها بمداد الروح؛ روح ملهوفة عاشقة تكد وتشقاء، وتغلب ذلك بتؤدة وتأني المودة التي ليست علي عجل من أمرها ، كما لو كانت تكتب إلي روحك رسالة محب، تشكلها نأمة نأمة وتنسج بنول جاد ومثابر وبنفس خصبة ، وفي طزاجة فلاح مقبل علي حقله في صبح ندي .
هذه كتب ترهقني بشدة لأني أحبها أكثر مما يجب وبالتالي لا أعقلها.
كعصافير طليقة تحلق في سماء الروح ،كالنحل ترشف عسل الروح، كدود القز تسلك وتغزل حرير الروح .
كما أنثي ناضجة يتفتق سكر خوخها وينساب في النفس كما النفس ..
كما أنثي تتغنج أنوثتها دون دراية منها و لا قصد .. الكتاب يأخذك بقوة ، هذا هو الكتاب تأخذه بقوة
هكذا كتاب مكتوب لأجلك . هو كما الشعر وإن كتب في غير ذلك ، منثور ، متفكر ، متفلسف ، مسرود ، منشغل بموضوع ، في كل هو كتابك ويأخذك إليه .
أي امرأة تكون لك غصبا عنك وعنها وبإرادة أنوثتها اللامرئية، كذا كتاب خصيب يبدو كنهه عصي رغم تمكنك منه وتمكنه : أبدأ القراءة قلقا متوترا ما يبدو لي أن ما أطالعه مرهق وسوف أتركه ، أنغمس بإحساس يتوكد مع كل صفحة أني تاركه ، مع كل صفحة ينتابني هذا الإحساس لكن رغم ذلك متورط وهناك ما يتواطاء فيّ، لست مسلوب الإرادة فالمحب مريد بإرادة الحب، أو كما الحدس المبني علي إرادة وعقل ولكن غير مكشوفين، أو كما العقل الباطن فهو عقل في الأخير.
كتب كهذه تمتع العقل وتأجج النفس وتوقظ الرغبة في الحياة، لأنها وإن كانت بحثا في مجال عقلي مكتوبة بروح الفن ، الفن الذي يجعل للنص حفاف عدة ويبعث الشفافية والرقة في الموضوع الحاد الصرامة، فكأنه يؤنثه؛ يبث فيه روح السلاسة وعذوبة الروح الحية النشطة.
تغدو كاتبه وتنساب فيه في محاورة يتكلم صمتها وينطق مسكوتها ، الإثارة فيه تتجلي في الروح القلقة التي يبثها فيك ، ثم يبدو كحلم أوله صعب المراس وأخره استرخاء اللذة، أو كما النبيذ المعتق المرّ المذاق المسكر حتى الثمالة.
مثل هذا الكتاب كمعشوقتك وجودك فيها ،كما وجودها فيك، لا تكتمل إلا به.
ليس بدعي و لا متملق فحكمته في غير الحكمة ، بساطة حتى حافة السذاجة حتى تقول أن بمكنتك كتابته علي حافة كرسي وطاولة وفي مقهى صخب، مكار كثعلب يأخذك بعيدا عن قريبه ثم يسلمك نفسه، كامرأة عاشقة تكون طريدة لتؤجج الرغبة فيها، وتنفك وتسلمك زمامها من كانت كما الفرس الحرون، هذا الكتاب يمنحك الشكيمة لتشكم لهفتك ولتأخذه بقوة ولكن في تأني الممارس الخبير.
يقول : أنا كتبت لأجلك
خذ الكتاب بقوة، وإن ترددت سيأخذك بقوة، فالتردد لا يليق به و لا بك، وكما في التسرع الندامة في تأني المتردد الهلاك. التهلكة أن تدفن هذا الحي في جبانة النفس الكسول.
يقول : اقرأ
تقول : لست بقارئ
يقول اقرأ، أنت القارئ ولكل قارئ قراءة.
ثمة كتب ترهقني بشدة لأني أحبها أكثر مما يجب وبالتالي لا أعقلها.
ما أحبه أطالعه بالروح ويسري فيّ حتى يغدو كدمي ، حينا أجده لساني وحينا شغفة من شغافي ، حينا أنا وإن كان آخر فأنا هو الآخر، فهذا الكتاب جسد من أحب أطالعه كما لو كان يطالعني ، أنزف فيه عطر جسدي ومن عطره أستمد عطري ، كل جهد هو باعثه وكل لذة أغمره بها تغمرني ، في بحره أطلق نفسي فتعوم دون كلل و لا تعب فهذا الكتاب يبادلني الحب.
هو المانح مجسد الروح؛ كما جسد من تحب ينسل منك تاركا فيك الروح.
هو الوصل ما تبحث عنه كثيرا وبعيدا فتجده في الوريد .
هو الكتاب ما كتب كي تكون وما تقرءاه كي يكون.
هو المنثور في البياض النفيس في النفس الشعر الذي علي قارعة الطريق.
هو علة لمعلول هو أنت .
هو ما يمل وما يملي عليك الشغف فيكون الملل زبدة الروح، لا يشبع من جوع و لا يروي من عطش .. كما النار : هل من مزيد ، يرهقك فتعاوده لا يمكنك مفارقته ، تريده وان تعبت وتتلهف إليه وهو في سريرتك يقاسمك السرير، بين يديك لست مالكه ولست مملوكه ؛ أنت به الطليق .
فالكتاب الذي لا يؤنث لا يعول عليه أو كما قال الشيخ ابن عربي .
مفتتح الكتاب كما نهد طالع من حديقة جسده يباغتك : لست طائله إلا بكد وكد، ثم يسلمك زمام نفسه ولكن كفرس حرون لا يروضها إلا المراس الحثيث، فأشكمها من عروة الرغبة وشدها إليك هي المريدة وأنت المراد . كن علة الوجود كل أنثي من خفاء فخذها من الخفاء لتتجلي، أمسك بزمام الكتاب ولا تتراجع ، في كتاب كما في بحر؛ الشاطئ مستهل لا تساهل فيه ولا عاصم منه ، الشاطئ موج يجرف كل تحوطاتك فلا تتحوط وأغمره من كل فج غمق بروح الرغبة العارمة.
كن سيفا مسلولا يكن طوع أمرك .
كل كتاب أنت محكه كما كل كتاب محكك؛ ثمة كتب ترهقني بشدة لأني أحبها أكثر مما يجب وبالتالي لا أعقلها. ادخل فيها حتى التيه؛الكتاب متاهة ليس عليك فك لغزها و لا فك أسرك ، أعجنه وأجعله عجينك، ستأكل الرغيف الطازج بلهفة الطالع من متاهة من به مس من جنون ؛ الجنون التي أحييتها بمائك فلا تجعل الجن يشل الركب كن كما الطود ، اجعل من الكتاب / المتاهة طود نجاتك.
زبدة الكاكاو تدعي الشوكلات ولونها بني مذهب، لذا الكتاب ما يمكث فيك أما ما يذهب جفاء فليس لك، دعك منه ما ينفع مكث.
الكتب هذه كما النساء يركضن مع الذئاب، لكنها تركض إليك، أو كما القراءة جهرا أو سرا هي قراءة محصولها تجنيه بتؤدة، تأتيك خفافا وتسكن محفتك، أو كما مرة كتبت ليف اولمن في مذكراتها – أتغير- : إن أفضل ما يمكن أن يرافق النجاح هو معرفة أنه ليس شيئا يتاق إليه . أو كما قالت ..
الجمعة، 11 سبتمبر 2009
الأسطى في عين موبايلي
سأحاول هنا أن ألعب دور المصور حيث تسنى لي في لحظات أن أتخلي عن مسئوليتي في لجنة مهرجان الأسطى في دورته الأولي ، وهكذا كنت التقط صوري بجهاز موبايلي ، كنت كمن يهرب مما يثيره مهرجان كهذا من عواصف – كالعادة ..
خاصة وأنه لم تعد تستثيرني لعبة سلم الموسيقي هذا ، فالمشهد بات مكررا هذا يطلق وهذا يشد ، هذا يقول الشيء ويقول نقيضه . وهذه الزوبعة لا تنتهي إلا لتجر معها زوبعة .. كنت أهرب من هذا الفلم الهندي الذي يستدر الدموع و لا ينتهي ، كنت التجئ إلي جهاز الموبايل حين ألتقط أنفاسي مراقبا الأصدقاء والزملاء في لحظاتهم الحية والعفوية .
إذا هذه اللقطات الطليقة كانت كما عصافير حية تلتقط بعين الحب ما ترى..
وإن لم يكن أحد أخر في مجال عين موبايلي فبطبيعة الحال لا يعني أنه لم يكن في عين المكان؛ عين قلبي ، لهذا سيجد لي كل من لم أذكر العذر لأنها زلة موبايل ، وكل زلة مغفورة ، فالتحايا والعرفان والاعتذار لهم جميعا أحبائي .
شاعرة في عفويتها أسرت الأسطى، محنكة وبدربة العصافير تتنقل بين الأمكنة متخذة زاوية كركينة ترصد وتطلق عصافير مداعباتها الحرة كما نزوة عابرة ، لم تتكيس الرصانة ولم تلتحف العبث لكنها بثثت جذوتها، كانت كما تحب أن تكون لهذا كانت كما لو كانت بنت هذا الزمن التي لها وشائج مع درنة ، ولها مع آل الأسطى التاريخ ، في خفة كائن لا تحتمل نشرت روحها في المكان.
وكأن كل من كان هنا – في بيت درنة – لا يعرفها منذ زمن وحسب ولكن يعرف أنها في بيتها ،
هكذا حواء القمودي وهي تفرش أوراقها علي محفة ركح المسرح الوطني – درنة ، في ليلة الأمسية الشعرية ، الشاعرة التي تصطاد اللحظة كي تكتب قصيدتها حية طازجة وطفولية معا .
الضحكة هي قناع وجهه الذي يجعل منه ملك المكان غير المتوج ، كان في ما سبق قد حاول التمثيل، لكن ضاق به الركح ، فمكانه مسرح الحياة ، لهذا نكه المهرجان بذائقته ذات النكهة الضاحكة، جعل المكان عبقا به من حرفته التهريج هذا الجاد حتى الصرامة.
لولا رضا بن موسي كان الأسطى كئيبا
لولا هذا المهرج الشفيف لما كنا جادين كما يلزم
لولا بن موسي غصت حلوقنا بالجدية
لولا هذا الشاعر ما تسنى للشعراء أمسية
لولا رضا
لولا رضا ما كنا راضين عن أنفسنا في رحاب الأسطى .
هكذا سميناه عبد النائم ، كنا معا : يوسف الشريف ورضا بن موسي ونوري عبد الدائم وأحمد الفيتوري وفتحي الشويهدي وسالم العوكلي والأخيران تركانا في الليلة الأخيرة دون مبرر- في بيت في سانية عند مدخل درنة قرب البحر، هكذا رفيق ليل كان ، أضحي ضحية نوم حتى الضحى ، متسربلا بالكسل متخذا من الأسطى فرصة كأنه لم ينم ولن ينم ، متحمسا في غير ذلك تحمس الجالس في التربونة، كما لو كان المتفرج الوحيد الذي لولاه لما تم المشهد .
نوري عبد الدائم – الممثل والمخرج المسرحي والصحفي – أطلقنا عليه لقب عبد النائم بجدارة يحسد عليها ، حيث علي محياه ابتسامة دائمة وماكرة لأنها توحي في كل لحظة أنها ابتسامة خاصة بك ، لهذا مميزا كان في مكان الأسطى الذي كان في ظله؛ الظليل .
كما يقال لمطربي الراب الشاب خالد مثلا يمكن القول الشاب يوسف للراب : مهرجان الأسطى ، في الافتتاح في بيت درنة حضرت الحضرة فحضر نقيب المداحين في زاوية عيساوية أو أسمرية ، منذ اللحظة الأولي وكعادته عفويا طليقا، لا يقيده قيد الرصانة ، دون أي ادعاء أو تملق يلتقي اللحظة ويسرح في المكان كما لو أنه ولد فيه وعاش عمره المديد بين جوانبه .
يوسف الشريف من عيوبه أنه محب لمن يحب حتى الثمالة، لهذا بدأ في باحة الأسطى كما لو كان بيت درنة بيته وأن الجمع ضيوفه .
مسترسلا في وجده انساب في الحاضرين ، لو أنه لم يحضر تغيب الأسطى عن نفسه ، كان لا بد منه ملح الطعام هذا المدعو يوسف الشريف كي يكون للأسطى طعمه الحاذق هذا الذي استطعمه الحاضرون.
الفنان كما ظل الشجرة الوارفة لا يراه الناس ؛ لكن الحصيف منهم لا يري الشجرة إلا من ظلها الذي هو الوارف .
كذا كان ليزي فنان المزمار الدرناوي الحصيف ، لم يتغيب عن بيت درنة لكنه كان الغائب في ظل الأسطى ، ليزي الذي كان مزماره يسكر محبي خمره أو عزفه ، كان العزوف عن الضوء في حضرة الأسطى ، يشع داخله في هذه الحضرة ، يشع صمته في نفس الزاوية وعلي نفس الكرسي
هو المسكوت عنه في كل ألحان الأسطى.
أسرني هذا الرجل الذي بأسره حقا يجلس وحيدا.
لا يكل و لا يمل، يفعل كل شيء ، صغير القوم عند العمل ، خادم الأسطى ، مدير البيت ، مدبر الأسطى ، في كل مكان وكل الوقت كما لو كان منه عدة مستنسخين.
هو سالم العوكلي كما لو كان ليس من آل الثقافة ولا الشاعر..
تمنيت لو رأيت هذا الرجل زعلانا أو برما
أو رأيت مسوح المدير تلبسه
لقد شلح نفسه ولبس مسوح الأسطى كي يكون الخادم ؛ فهل حقا أن خادم القوم سيدهم ؟ ،
كان الخادم لأنه يحب ما يفعل، وكل محب في حضرة حبه خادم.
هذا المحب تجلل بالأسطى لهذا كان الأسطى.
يعرفه الجميع و لا يعرفه أحد ، كما صمت الكمان الذي يهدر فينا ، وكما جبل لا تهزه ريح ، لا يفعل شيئا يري لأنه يفعل ما لا يري ، ينجلي في خفاء ، ينحت في المكان وجوده كما نقش أو نأمة في سجاد فارسي ، يناء عن الضوء كي لا يري ما يفعل أو كمن يرسل حبه في سر عن محبوبة ، هو السر الذي يعرفه كل أحد كما الحضور الغائب عن النظر ، عند الأسطى لا يغيب عنه وإن بدأ كما الموجود اللاموجود.
رجب الهنيد هذا الرجل لم يستطع أحد إلا أن يحبه كان المحب للجمع في الأسطى.
لو لم يحضر لحضر غيابه ، هو في مثل الأسطى لا يغيب ، من لا يتمكن من الغياب عن الأسطى كان في تعب لهذا أتعب تعبه منه كي يكون في الأسطى ؛ فيه قلق المتنبي الذي أقلق قلقه منه ، لم يتجلي كعادته لكن لم يسمح للتعب أن يرهقه أو يبعده عن قلب الأسطى .
لقد نحت في قلبه أن يكون كالأسطى في المكان؛ ينحت وجوده في المكان ، وعند الحضور الحاضر.
لهذا إدريس المسماري حمل ما لم يحمل الجمل كي يكون في عين المكان وفي الوقت .
دأب أن يحاور ويتحاور مع الأسطى كما عادته ، أحب أن يكون في عين المكان في جدل بيت درنة الثقافي ، في المتن كما علي الهامش يطلق ابتسامته كي يفسح الطريق لأرائه ومجادلاته ، متنه البلاد في أطيافها ، طيفه يحضر في اللحظة وفي المكان ، سرح في الأسطى فالبيت بيته والمجال مجاله والتفاصيل تفاصيله ، لهذا كان يتابع بدأب كل ما يحدث مشاركا في تشكيل لوحة الحدث، وفي مثابرة نسج من ذاته لوحة المكان .
حسين المزداوي لا يلحقه كلل كي يبث محبته للآخرين، فالآخر عنده هو أنا .
يوسوس في صدور المكان خفة لا تحتمل وبأسره يمشي الهوينة، يندس فيك بسلاسة ضحكته العابثة، هذا الخليع يخلع رصانتك وادعائك كي تكون أنت أنت ، حين يكون في الأسطى يكون هنا وهناك ، لم أراه في مكان لأنه كان في كل المكان ، يشخبط ويلخبط لوحة المكان كما لو كان يرسم كاريكاتير، ليس مع أحد لأنه مع كل أحد ، هو السهل الممتنع يشكل المكان بروح يقظة وهو السارح في خلائط نفسه ، يضفي علي المكان عبثا جادا لهذا لابد أن الأسطى قد تململ في قبره لأن فتحي الشويهدي قد ورث روحه وإن في طفولة آسرة.
ليبيا يا نغما في خاطري كانت الأسطى، فالأسطى محمد نجم أراد أن يعود في يوم الأسطى هذا ، لهذا كانت ليبيا نغما في خاطر الأسطى في المسرح الوطني – درنة.
الثلاثاء، 26 مايو 2009
أحمد الفيتوري
التعالي وامتلاك الحقيقة وتسفيه الآخرين والتقليل من قيمة تجاربهم والاستخفاف، ليست هذه بحاجة لسلطة؛ أيا كانت هذه السلطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية ، الأمر لا يحتاج إلا اعتدادا مبالغا فيه بالذات الذي بمكنة أي أحد أن يصاب به ويصيب الآخرين به .
ولهذا الرشح أسباب عدة للإصابة به؛ فهو كما أي أنفلونزا معدي ووبائي ؛ ومن أسبابه البينة الأزمات الذاتية والموضوعية ، فالذاتية منها أسبابها سيكولوجية في الغالب، ومدعاة ذلك أحيانا موضوعية؛ كأن يعرف شخصا ما القراءة والكتابة في جمع أمي أو يعرف لغة أجنبية لا يعرفها هذا الجمع ، وعلي هذا المستوي الذاتي لا يمكن حصر أسباب ذلك، فمنها حتى ما هو إكلينيكي يعالج في المصحات، وكثيرا ما يكون مرضا مزمنا كجنون العظمة مثلا .
لكن علي أي حال لسنا هنا بصدد حصر مثل هذه الجنون، حيث بمكنة أي راغب العودة إلي أي مكتبة مختصة.
أما الموضوعية فيمكن إرجاعها عند الباحثين لأسباب يحددها منهج البحث ومرجعيته، ومنها علي سبيل المثال الأزمة الدولية الحالية، التي نتجت عقب تغير النظام العالمي وانهيار نظام القطبين، ثم خروج ظاهرة الإرهاب والتعصب، ولصق هذين بالمسلمين والإسلام نتيجة لحوادث ظاهرة هنا أو هناك، حتى ظهر ما سمي بفوبيا الإسلام كوسواس قهري تبثه الميديا كوباء وتشحنه أحداث كثيرا ما كانت رد فعل ناتج هذه الفوبيا.
هذا الحدث الدولي أحدث اضطرابا فكريا وتوترات نفسية وتغضنات علي أرض الواقع ، حولت العالم إلي ساحة معارك ملغزة؛ يغلب عليها التكتيكات الآنية الظاهرة ، فيما غابت الاستراتيجيات عن الناس الذين حولوا إلي متلقي منفعل ومفعول به .
هذا مثل جانبا موضوعيا، صاب كافة الناس المنفعلين بما يقال لهم، الواقعين تحت طائلة أكبر مؤسسة أنشئت في تاريخ البشرية : الميديا الحديثة التي تطاولك في عقر دارك أو كما يقال .
إذا الموضوعي أيضا معقد كالذاتي وإن أمكن دراسته في المعامل البحثية وبالعقول العلمية وبالصرامة الذاتية وبالتعفف عن الصغائر والانتباه للقصور البشري .
وإذا حق لنا النظر في واقع الحال البين لنا والذي له علاقة بمعيشنا، فسنتخذ مثالا هاما نموذجيا يحاصرنا فيما نطالع ونقرا يوميا، حيث نصفع كل يوم بمتنطعين لقضايانا هم متعصبون يدرون أو لا يدرون وهم يصمون مثلا العرب بالتعصب والمسلمين بالتخلف والليبيين بالقصور وبنخبها بالجهل .. الخ ، وهم طبعا مصابون لسوء الحظ بكل هذه الملوثات كونهم مسلمين عرب ليبيين ومن النخبة مثلا.
كي ينأون بذواتهم يتعالون عن موضوعهم فيصدرون أحكاما قطعية وجزافية منها :
كل النتاج الفكري وكل البشر المنتجين لهذا النتاج قاصرون، من هذا يبدأ مسارهم من النفي القطعي للغير، ويعدون هذه المجتمعات الأمية طفولية وبحاجة لرعاية هم الراعي في تقديرهم لأنفسهم ، و لا يألون جهدا في نقودهم للسلطات السياسية الحاكمة المطلقة التي تحول المواطنين إلي رعايا .
ورغم أنهم بشر وأنهم محدودي الإطلاع وأن معارفهم مهما كانت لا تتعدى أنوفهم ، رغم ذلك فإنك تجدهم بخط قلم غير مبرأ يصرون علي أن ما تم قبلهم كله بحاجة للحذف ، وفي أحيان أخر يصرون بعناد طفولي أنه لم يكن ثمة شيئا قبلهم .. ولهذا لابد من الصفر.
ومن عناصر الإثبات لهذه الحالات المتطرفة أننا لا نجد لما يكتبون أي مراجع كانت ، خاصة المحلية منها ، وبهذا وهم يعيدون إنتاج ما أنتج يظهرون في شكل موضوعية زائفة .
إن المرجع الوحيد المسكوت عنه هو أن الذات هي المنتجة؛ فإن الحرير تنتجه دودة القز هذه وليس لورق التوت علاقة البتة .
ومن طبع الحال أن هذه الذات / دودة القز نظرية الطابع؛ باعتبار أنها المتفرج الوحيد في تربونة الواقع الذي هو ورق التوت الزائد ناقص وجوده .
لا أريد الدخول في تفاصيل هذا المشهد الجنوني؛ لأن تفصيله تمنح فرصة للمزايدات التي هي من طبع مجنون العظمة. فهذا المتفرج الوحيد لا يألوا جهدا عن أن يكون مبرزا ولهذا يتمحك وينتهز كل الفرص كي يكون في الضوء . و يستخدم كل الوسائل من أجل التشويش كي يكون في قلب الصورة ولكن بعيدا عم ما يحدث.
وهذا الجنون يجعل المرء يعيش رهابا من كل ما يقوله ويفعله الآخرون، مما يستتبع ذلك دون كوشتيه عالية في نقود لا أول لها و لا أخر، هذا فيما يخص من يسهل نقدهم و لا يستتبع ذلك أية فاتورة من الجدية، وتتوفر كل الحماية والأمان في حال تسفيه نظرتهم والاستخفاف بأفعالهم .
وحال التناقض هذا من رهاب ومن جرأة وقحة، مرده أن جنون العظمة يجعل الشخصية مضطربة وموتورة .
وهذا منطق أعوج بينّ، ديدنه التخوين وتتفيه كل ما لا يروق له ، وهو من جهة أخري متزلف وانتهازي الطابع، يتخذ من كل وسيلة ممكنة سبيلا للتبرير فهو منطق تبريري بالأساس ، إنه التردي الذي يمدح التردي ، ومن فضائله أنه كما ديك الزبالة التي كلما زادت أتاحت له أن يرتقي القمة كي يؤذن بانتشار وازدهار الخراب .
لا أحد قبله تمكن من السؤدد ولا أحد يملك الحقيقة ، لهذا يرتع في ساحة الصغار محرضا ودافعا لتسفيه الآخرين ، مصادرا كل حقيقة لا تروقه ، معتبرا كل المشاريع التي بدأت قبل أن يولد قاصرة وقام بها نفر من المعتوهين .
السبت، 7 مارس 2009
أحمد الفيتوري
تحية طيبة وبعد
كنت اطالع بنهم كتابا عن اسطنبول للكاتب اورهان باموق ، هذا الصباح من هذا اليوم من رمضان الشهر الذي يدوزن حياتي؛ حيث علي غير العادة افيق مبكرا، لعل ذلك بحثا عن العزلة ما تستوجبه المطالعة والكتابة كما تعلم .
فجاءة ، وليس للفجاءة من تعليل مباشر، وجدت نفسي قدام جهاز الكتابة الكومبوتر اسطر لك هذا :
ما العلاقة بين اسنطبول والمفتي دون الدخول في متاهات التفصيل ؛ ما خطر علي بالي هو المشترك بين ما تكتب وما طالعت عن اسطنبول، حيث يشير الكاتب والكتاب الي مساءلة في غاية الاهمية وهي الفصل بين ما تستلزمه السياسية وما تستوجبه الكتابة.
لقد ظهر لي فيما اطالع ان الكتابة رأسية بالضرورة، أركيولوجية ( شغل حفريات)، وهي أيضا كالارابسك؛ نمنمة وتفاصيل ودقة والتفات للحواشي والهامشي وهذا الاهتام بالجزيء مرده الالمام بالصورة.
لقد طالعت ما تكتب محاذايا أو مجانبا أو أحيانا- في الفترة الأخيرة- عن بعد ، ولقد وجدتني علي بعد من أخر انتاج؛ فالمسألة التي تتناولها الكتابة في كتب عدة بدأت أفقية وتعطي الصورة في مجمل مقتضب، كاللقطة البعيدة لا تجسر علاقة حميمة بالمكان ولكن تعطي تشريحا أو بلغة الطب تعطي الهيكل العظمي الذي هو واحد في كل الاحوال .
وهكذا شغل هو انطباع مختزل وعابر في حياتنا، قد يكون هام عند مؤرخ يبحث عن مؤشرات سببية لنتائج بحثه.
لكن ما تؤمي به كتباتك في أولها ما يمكن تؤيله بالخارطة المفصلة للموضوع، فكأنه سيرة ذاتية للموضوع في تقديري ، لهذا فكتاب كهدرزة بنغازي ودكان الشائب هما كتابا الموضوعة الواحدة ونسج علي المنوال ، منوال المدينة الحية التي نبضها ما يجس من خلال تفاصيلها التي يمكن جسها لكن لا يحاط بها .
لو تابعنا هذه الكتابة في غير هذين الكتابين، سنجد أن الروح الاصيلة قد تفتت في أغراض أخر ليست من جنسها، لأنها وان تماست معها لكنها شكلت قطيعة، ففي كتابي بنغازي وقد يكون في سهاري درنة لم يكن الغرض من الكتابة مستهدفا في ذاته كما الكتابة، ولكنه من نسيج الموضوعة، وحتى علي مستوي بين وظاهر تبدو الكتابة الاولي في علاقتها بذات الكاتب أصيلة.
لكن في كتب مثل غمق زلة وأيام طرابلسية هناك ينفلت الموضوع من نفسه ويتبدد في أغرض خارجة عنه .
بمعني أن ما كتب عن بنغازي المدينة وبشكل ما عن درنة هو التاريخ السري للمكان الذي مستودعه الذات، وهنا تتجلي الاضافة والاثارة والمتعة المتحققة في التماهي بين الكاتب وموضوعه أساسا، ويبدو تجنيس شغل كهذا عصي علي الباحث كما هو ليس من مشاغل الكاتب .
لن اقفز لخلاصة بينة أنك ابتعدت عن موضوعك فيما بعد، وأن المؤرخ قد كبلك بحيثيات ليست من بوادي شغلك، ولن اصدر حكم قيمة حين ارصد أن الصدي الذي انتجته الكتابة الاولي غير الاخيرة .
في كتابي هدرزة في بنغازي ودكان الشائب يتبين أن ثمة طبقات تم كشفها بحفائر علي سطح ذاكرة موشومة بالنسيان، وظهر أن نسيان كهذا هو أيضا وشم في ذاكرة كهذه . لقد تم مس الخيط العاري في كهرباء جسد المدينة التي تبدو كما جثة صابها الوهن، وأن الرصد استخرج حالة موات ، فهذه الكتابة كأنها قشع واستبصار وهذا من لزومه الاستدامة في البحث حيث أن التمثال يكمن في الصخرة وأن المنسي في الطين .
لا يعني هذا كما يمكن ان يخطر للبال في الوهلة الاولي، أن الكاتب ملزم بهذا عن ذاك، لكن البين ان الكتابة تلزم هذا عن ذاك، فالنصوص المعنية هي التي تبدو كما حفر لم تبان تضاريسه بعد ، وأنها تؤشر إلي كونها كشف اولي .
النهج يلهج بأن فصاحته لم تتبين بعد وأن ما ظهر من الجبل هو غمغمة توميء ولم تفصح .
لذا أعتقد أن هذا لسان حال الكتابين الاولين وتابعهما سهاري درنة، فيما غمق زلة وأيام طرابلسية انطبعات مؤرخ موصولة بكتابين ظهر منها : هذا الوطن الذي يسكننا الكتاب الذي هو بيان في الهوية السياسية أكثر منه بحث في التاريخ ، ويستمد جدارته من هذا .
لكن الكتابين الأولين ليسا من البحث في شيء و لا يرسما خارطة لأي طريق؛ انهما أركيلوجيا النفس ان شئنا الابتسار، أو أنهما اشراقة المكان في الذات الموصومة به، فما يتجلي هو الخفي هو صيرورة الذات في مكان بعينه.
وما يستطلع من بساطة ظاهرة في النص توكد المستويات المتعددة لاوجه القراءة أكثر مما توكد سهولة النص وشعبية تداوله، وكذا روح الصحفي مؤرخ اللحظة الظاهرة تستحث القارئ علي غير العادة: أن لكل قارئ قراءة ، فكما ظهر من ردود أن الكتابين أثارا زوابع همها التفاصيل وليس المجمل، وهمها الخاص بعينه وليس النص .
فالنصوص الماثلة تثير الغبار وينبثق منها عجاج تعج به الوقائع : الواقع المعاد تشكيله بأدوات ذاتية محض كثيرا ما نظر لها نظرة عجولة فضائحية مشغوفة بصحف الحوادث.
أما تضاريس الروح التي تبان في هكذا نصوص فإنها توكد ضرورة الحفر بإزميل مضاد حيوي لرشح العجالة، و لا يصابه العطب من ردود الافعال.
هكذا فإن كتابك الذي ظهر في جزئين: هدرزة في بنغازي ودكان الشايب صفحة من كتاب لم تكتبه بعد، لكن هذه الصفحة تبدو كما خطاطة بارزة المعالم لهذا الكتاب.
ولم ار فيما طالعت تاريخا اجتماعيا أو بحثا في التاريخ أو وقائع .. الخ مما ووجه به الكتاب من مناقشات علي سطحه، الذي أظهر بعض من المعلقين عليه كقطة علي صفيح ساخن؛ شغلها التصحيح والتنويه وحتى التلصص من الثقب الذي تجسد في الباب.
ان أهم ما تثيره كتابات كهذه النقصان لأنها كتابة حياة في صيرورة، فالماضي فيها حي يلهث في النفوس والحاضر مسرح يعج بالماضي فيما المستقبل يدق الباب علي عجل .
من هذا رأيت الكتاب الذي نشرته في جزءين فاتحة وفاه مفغور كفويهات بنغازي هي مداخل لكنها ليست المدينة، المدينة كبنغازي حفريات تكشف عن طبقات جيولوجيا متحركة، والكتابة عن الزلزلة التي تكون المدن نمنمة تعيد تكرار ما تغزل في مسدة تظهر المعتاد ما يخفي المتفرد .
هكذا هناك فرادة متكررة تلزم النسج علي المنوال كي تظهر هذا الفرادة ، ما يتجسد في تفاصيل توضحت في الكتابين – اشرت اكثر من مرة أنهما جزاءن من كتاب واحد – تأخذ بلب الموضوع كما تأخذ بلب النفوس عن الموضوع وتدك بها في حمي التفاصيل .
ولن افصل ما فصل في الكتاب أو في الردود من شغب التفاصيل، التي هي المدينة أو الحياة مشروطة بتجمع كل فرد فيه مفرد بصيغة الجمع.
هكذا كتابة همها المعمار البشري وما العمارة وعمار المكان إلا تظاريس للروح، فهل بمقدورنا رسم هذه التضاريس دون حفر مستدام، حيث أن اتكأة واحدة لا تكفي لرسم المشهد ما يلفه عجاج الحياة، وحيث ثمة خطوة في الاتجاه .
ثمة في الكتابين حميمية مماحكة مع وقائع تبدو مبذولة وعلي قارعة الطريق، واقتناص صائد غزلان فارة، وصب مادة صلدة في حفائر دعكها النسيان ، وما يمكن اعتباره من نافلة القول هو الحجر الاساس في الكتابين، لأن التفصيل هو الثوب الذي يخرج جسد الحكاية من نواة المسرود اليومي والمعتاد ،واعادة اعتبار للمبذول والمستهان به في المعيوش، وهكذا من اللزوم القول أن شيطان التفاصيل لديه الكثير، وأنه يكمن كحالة ابداع تستعيد ما استعيض عنه وتعيده حيا يشغل الناس كما لو أن ما كان سوف يكون.
وهذا ليس نوسوتولجيا المكان ووقائعه، لأن استعادة التمشهد استعادة للحي من الميت ، فليس كتابة كهذه خارطة لتضاريس جبانة وشواهد قبور بقدر ما هي تشديد للضوء كي تستبان الظلال .
والسلام مني
بنغازي : الاحد، 07 سبتمبر، 2008
الأحد، 22 فبراير 2009
أحمد الفيتوري
صباح مساء
تفتح باب الروح
تبخر اركان البيت
وفي سريري تندس قهوة
تنهض جسدي من وهن
وتوقف سقفي
علي فخذين من رخام
كل ما مستها
نار العسل تلذعني
وتشعل ما خمد.
علي نارها تعدني عشائها الأخير
تجعل مني زبدة كاكاو لشفتيها
تحبط مؤمراتي الصغيرة
للاستلاء علي أخر ما تبقي لي
أرضع دهشتي
وأندهش من نهديها
ما ينبثق في أرض يدي
سوسن كحلي
ولوز ولبان وقرنفل رمان
شمس حارقة
تذوب كريم الغيوم
اتوجها ملكة الكروم
وأعصرها بأسناني
كهمجي مهتاج
أسفح دمها جرعة جرعة
حتى يتداعي سقفها
ومن سمائها
تتساقط نجوم خمرها
أهزها
أجنيها ثمرة ثمرة
صباح مساء
هي
علي نار هادئة
مشتعلة
بكستناء هائج
مجمرة النار
تدسني بين أشيائها
تعجن توقي خبزا
وتلتهمني علي عجل
تعيد صياغة لهفتي
وكطائر أعمي اصطدم بسماء ابطها
أسقط في عشها
اتلمس
هنا ما ليس هناك
هنا نار الله الموقدة
هنا لا حول لي و لا قوة
هنا انبثق منها
أخذها بتؤدة ملهوف
أعصر تفاحتها
كي أطرد من الجنة
ومن الناس
كي التقيها عند حافة الشهقة الأولي
أصابعي فلفلها الحار
وجسدها صلصال
الأربعاء، 11 فبراير 2009
أحمد الفيتوري
عند انسلال الأبيض من الأسود
خشعت : يا الله
اجعلها تحب من لا يحبها
اجعل قلبها لقمة سائغة
يحرقه الحب
كما تحرق الشمس نفسها.
يا الله خبل طرقها
أغلق باب اليأس
أغلق باب الرجاء أيضا.
وأن ينخر سوس الوحدة أسنانها
وأن يبزغ في عينيها شوك السهد
وأن تتخبل في ظلها.
وأنعم عليها بعتل زنيم
كثعبان الجحيم
يمضغ قلبها ويلتهم أحلامها.
افرد عليها جناحا من الظلمة
كي لا تري إلا أشباحا
وأطفئ مرآتها.
عند انسلال الخيط الأسود من الأبيض
صلي لي قلبي شاهدا أن
ليس لي من الخطايا إلا الكذب
والحب.
فتمنيت علي الله
أن ينسخ بالحب الكذب
أن يحبها كما أحبها.
· دعوة
تعالي
لا تأتي
دعك مني.
عند نهاية شارع الإذاعة
جسر
ثمة نوارس تنتظرك
محملة بروح عاشق؛ غص بك .
ثمة قمر غطس في البحيرة
ولم يتسن له الطلوع
ثمة أمل لا يريد أن يغرق
تعالي و لا تأتي
لن أتمكن من استقبالك في بيتي
هذا الحفل لأجلك
لأجل غيابك
لا تأتي؛ أنت كما وجود وجوده غيابي
فتعالي كي يتحقق الحضور من ذلك
الحفل غص بك
كما عاشق
تلبك في عجين حلمه
غرق في بحيرة جليانة
دون أن ينتبه أحد
لا مصلوا الكاتدرائية المجاورة
و لا فرقة الإذاعة الموسيقية
و لا المصورون
البحر حمل جسد العاشق المسجى
وودعته الأمواج
فتعالي و لا تأتي
الحفل دونك مأتمه .
· أنتِ كذبي.
طوال الليل
ثمة بين نهدي
أحد ما يلهث يائساً
نفَسَاً نفسَاً.
· فروغ فرخ زاد
لست من محبيك
لكني مجدك،
أو الغبطة التي ستلتقين بها الله،
في يوم ميلادك
في أقسى الشهور أبريل،
ربيع براغ
ربيع قلبي
الكذبة الأولي أنت،
وأنا الكذاب، لست من محبيك.
ما لمست الحلمة
النهد نائم في غبطته
غبطة نسياني.
كلما لمست فكرة
أي مجرد
لمست الحلمة.
ما بك مس َ
مس أصابعي.
ما بك
ما بفخذيك
أنهما لا ينامان
بين أصابعي.
ما بي
أني لا أنام عنك.
ما بي
ما بك
أن بيننا هيولى.
بيننا شارع نسكن طرفيه
بيننا خطوة في شارع الإذاعة
من أحراش وغابات شائكة
طرية وناعمة كما ملمس جسدك
وفي حجم حلمة ثديك.
احذري أن تجتازي نهر الغبار
احذرينيني
احذري عاشقا خذلتيه مرة
احذري حبك الجم
نعومة إبطيك
خشونة رغباته
و لا تحذري شيئا.
لله أنت
ولي غبطة فقدك.
كل أنت لست أنت
كفاك أنت كذبة.
ظهرك منزلقي
صدرك وجعي
والساقان قوس النصر في باريس
ألست الكذاب؟ .
في أبريل كل كذب كذب
ويوم ميلادك أيضا.
لا تغتبطي بي
أنا كما أنت كذبة وأنت كذبي
لا تشيدي بعيوبي
العاشق الأبله
هذا صولجاني
توجت به
بعد أن غدرت بك.
سيد الأكاذيب
كنية حبي ما ادعيت
في المرايا ومن خلال العتمة.
أيتها البلهاء
لقد وصمتك بي
موتي بغيضي .
ميت بك في أن أولد وأنت ميتة بي.
كل يوم ميلادك، موتك
لا تغضينني سوف ألدك من كذبي
في كل أبريل
الشهر الحرام.
عيد ميلاد،
ميلاد من ؟
ميلادي، ألست أنت كذبتي؟
ألست أنت الموت الخالص
أناملك سورةُ تَبّتْ وفي جيدك حبلٌ
مسدهُ من حطبي؟
عيدٌ ، أي عيد؟
ما عدتُ وما عادت أمانينا،
في جيدك حبل نارهُ من كبدي
تقطعت أواصله في عيدُك.
كم أحبّكِ هذا المعتوهُ
وكم أصابه حبُكِ من عتهٍ؟
لا تصدقي معتوهاً حتى في كذبه.
أو صدقيه ،
كل ما بين نحرك، شفتيك، وفي السَرة عسلٌ
والسمسمُ؛ سرهُ ما باح به ولم يصدقه أحد
حتى أنت .
· اكتشاف الأشياء
في المشهد الحادي عشر
من الفلم الذي تحبين
ينتشر الحب مثل الحصباء
في جسد البطلة
البطلة التي لم تصب بالحب قبل
تكتم ألآمها
في المرآة صباح اليوم الثاني
تتحسسين بقع الحصباء التي
ظهرت في وجهك.
في المشهد التالي
في بيتي يحاصرني وجهك
كل يوم ،
وفي الليل تنفردين بي
أحك جلد قلبي
من آثر خربشة أظافرك
في المشهد الحادي عشر
أشاهد في شارع الإذاعة
كمفقود لا يبحث عنه أحد
في المشهد التالي
كامرأة شامخة الصدر
تمرين بي
وترمينني بابتسامة طائشة.
· ما شبه لي
كأني لم أحبك
كأني لست من أحبك
كأنك ما شبه لي .
أجمل ما في لعبتي
أنها عرس أطفال
أنك كما لو كنت خوخة
في شجرة أجاص
صدق لكن في أبريل
أو خمر متصوفين
كناية علي لا شيء
مجازمثلا.
جسدك مجرد من خيالي
لبان مرّ
حلم حامض
كذبي
ذلك الذي ما لا يطال.
نهد يتنهد
بسمة هي بسمة لأني أحببتها
هكذا ظني الذي كما اثم
أو كما أنت
فخذك مخدة ظني
والخصر دائرة شياطيني
وشفتاك المزمومتان
كرز نوم هجرني
وهاجرة نهاري
لذا كأني لعثمة لسانك.
ريق من عسل النار
ما شبه لي .
· مسكن لآلام الأسنان !
سأضحكُ كما المرة الأولي
ملءَ لا شيء
وأنْسي أني أضحك .
سأنسي الضحكَ
والنسيانَ وأنساك علي قارعة قلبي
أيتها اللبوةُ المنفوخة الشدقين
شدق رعب
شدق يمضغ عظامي
ويكسرُ لوزةَ أشياءٍ لن تكتشف.
سأضحك منك ومني
وأنسي أني نسيتُك عند عتبة حلم لم أحلمهْ بعد
بل
لن أحلمهْ أبداً
لن أحبكِ كما أحببتك
لن تكونين امرأتين
امرأة للنسيان
امرأة للضحك
لن أفهمك كما لن أحترق بك
لقد سليتُك مني
فلا تتسللي ضحكةً في ليلي
حبكْتُ كل شيء
أوصدتُ دونك بابَ بيتي
وشارعَ الإذاعة
والبحرَ المتوسط
كل شيء
كل شيء
أُطفي الضوءَ وأشعلُ الشيبَ في شعرك
وأنزع أظافرك من طلاها
وللمرة الحادية عشر
سأضحك
من الآم الأسنان
منك
سأضحكُ مرةً أخرى
وأختلسُ من جيبك النسيان.
· بيتزا أحمد الفيتوري
سأحبك بطريقتين
أن أعدك بيتزا لم تعرفْ
أضعها علي طاولة الروح ثم أتركها عنّي
أما الأخرى أن أنس أنك أحلي بيتزا تم اشتهاها.
سأغدر بك
الفلفل الذي يحرق غابة أحلامك
أضيفه للحلو فيك
شفتاك مثلا أو كلك فقط.
سأغدر بي سأكلك في حلم واحد ثم أنام عنك.
صحرائي أنت واني ألهث
ذئب وحيد أعوي في كابوس قصير النفس
يبدأ كل صباح
أخر الليل
كل الساعات
أيتها أل
لا تتوسدي قلبي
لا تتركيني أتخبل في عينيك
في حيرتي: ما لون عينيك؟
أيتها الكذبة الأولي.
· أيتها الذئبة التي ليست أنت
مخالبي تطال أنفاس ليلك
كما خلبتي نن روحي.
أشتهيك في كل الوقت أعجنك خبزي
وفي كل الوقت أجعل من جسدك كذبي.
إني أغني أمزج أحمر شفتيك
مع صفار البيض
وأسل من البحر الأبيض
البياض ومن موجي الزبد
ومنك تورد الخجل
من هذه الخلائط
سأحبك بطريقة واحدة
بأن أرسم في خلاء الروح
طائرا؛ طائر عني.
· فلم رعب
من كتب هذا السيناريو :
أن أتعثر في ابتسامة طائشة من عينيك
أن أغرق في سمائك
كطائر فقد جناحيه
أن أعرج في حبك
كما ذئب تنهشه مخاوفه
أن أفقد القدرة علي المشي
كطفل داهمته أمواج رغباته عند الشاطئ
أن أسقط عن سريري وتصطك أسناني
حين يفاجئني جسدك؛
جسدك مهر جامح في حقل خبلي
أو في فلم جوليا روبرتس الأخير
الذي لم أشاهده بعد.
أن أضيع عند باب بيتي
في شارع الإذاعة
وعند الكاتدرائية
تجفل منى أشباح المصلين
الذين قتلوا
في أخر غارة جوية علي المدينة
بالقرب من بحيرة جليانة تنهش النوارس جثماني
ويلقي المارة النظرة الأخيرة
علي القارب الذي طوحته أموجك العاتية
أي فلم رعب جعلتي مني ؟ .
· برتقال الروح
· أراك مراء العين..
و لا أذوقك
الخوخة ثمرة شجرة التفاح.
· هذه الحياة ليست لي
ولدت كي أراها
كي تشفي غليلها مني
كي تمص عصير برتقال الروح
كي تتركني علي قارعة قلبها
كما طفل يتيم.
كي تتشفي من نزقي
من ولهي
ومني
من ولد أطل من الشرفة الهاوية
كان يأكل أصابعه
حين أكلته الشرفة التي تطل علي البحر
في شارع الإذاعة.
· لم يتسن
أن ينصت لموسيقي
ضحكتك النهاوند
المعزوفة علي الكمان
كمان مصطفي الاسكندراني.
· حللت عنها
فحلت فيّ برتقالة المساء القانية
غرست في حدقة النفس
أظافر رقتها الخافية
وتجلت كي لا أراها.
· أو كما أدعي
أنت
من أنت
أنت من يعرف أني أحبك
كل ما أدعى
ليس إلا كلام سكارى
كما لو أنك
تكتبين قصيدة
أنت من يعرف ادعائتي
لذا أحبك
أنت أصدق الشعر أكذبه
لم أر فخذك
ما أري تصورات مهووس بك
صدرك من حجب
نهدك كما الله
خصرك من هوسي
لم أصدق نفسي
دعكي مني
كل ما أستحقه
شغفي
كل ما تستحقينه
كذبي
دعكي مني
أنت أجمل من كل أوهامي
أنت أصدق ادعاتي
أنت كما لو لم أكن
كما جسدك خرج من حمام صباحي لا يرغبه
أو تقاطر الماء
منزلق عند الحلمة
أنت تعرفين كذبي كما لا أعرف
أنت لست أنت
أنت أصدق مني
ألست كذبي
كم أحبك لأنك تحبيني
بقدر أن لا أحبك
تحبينني كما المستحيل
أو كما أدعي .
· ابتعدي ..كي أنام
ابتعدي
الجو حار
قطة شرسة تلتهم كبدي
ابتعدي أكثر
كي أتنفسك
أشم عبيرك
وأغفو عنك .
ابتعدي قدر ما تستطيعين
أستطيع أن أراك هكذا
دون وجل
وأشربك في حليب الصباح
المنزوع الزبد .
ابتعدي
دون أن تبتعدي مني
أنت دمي والجو حار
ابتعدي كي أنام ..
بس
كي أنام
ابتعدي.
· كما حب مصاب
أطرق الباب .
هذا البيت
بيتي؛ ضاع مني في الطريق إليك
البارحة أيضا ضاع مني أخر حلم
في شارع الإذاعة
عند بحيرة جليانة
التهمته الأسماك الصغيرة .
طفح الحلم
كالحب المصاب بالحصبة
عند باب البيت .. سقط جثة هامدة.
الحب الذي التهمه الحلم الطويل التيلة
خمد كالليل
عند مطلع اليوم التالي
لم يحدث شيئا
أنت أيضا ضيعت اللبن
هذا الصيف.
ولم يحدث شيئا
الحب كما بطة جائعة
أكل نفسه وحلم أنه نام
ومثلما الأسماك الصغيرة
التهم حلمه ونام .
الحب طفح كالحليب
من نهديك
التي استعارت تكورها من خجل القمر
في السرة
اندست الدمعة التي سالت من عينيك
هكذا ضممتك إليّ كحب مصاب بالزكام
هكذا البارحة ضاع مني أخر حلم .
وفي الختام .. وليس لي .. ما ليس لي..
لأمي
المرأة التي وجعتها كثيرا أوجعتني .
كأن أمي أرضعتني شقاء أن أحب ، كأنها قاست مني ما تعرف أنها ستضيقني ، أمي امرأة أخرى كانت تعرف أنها ترديني إلي التهلكة؛ حين أحبتني حين جعلت مني من غير جنسها ، حين كنت ذكرها الذي ليس أبي، الذي ابنها غير البار، الذي سيحب من بنات جنسها غيرها ، الذي ستنسيه امرأة أن كانت له أم .
أمي التي كنت مكابدتها التي ألقمتني روحها التي هدهدتني أخذتني من فمي إلي نهد كوبس نهاري وأظلم ليلي ، المرأة التي أنجبتني وشوكتُ نهارها وليلها سلمتني بيسر وتؤدة لشوك المرأة التي أوهمني مبسمها بتحنان يد المرأة التي أنجبتني .
كنت ثمرة لذة أبي عند أمي ؛ لكني جني العذاب العذب، في جسدي بثثت التوق لغيرها من جنسها ؛ وفي روحي عرفتُ عذاب هذا التوق .
أي أمي جنيت ما زرعتِ فيّ من وجعك معي؛ هاأنذا زهرك الرهيف تهفني ريح امرأة عاتية ، أي أمي هاأنذا عاري الروح معها كما كنت عاري الجسد معك ، أي أمي هاأنذا الطفل الحائر بين يديك الناعمتين الحانيتين بين يديها الطفل الشريد من لم يفتقده أحد ، هاأنذا ألوذ إلي حضن ليس لي ، كما دفعتني عن حضنك أدفع، كما وليت وجهي عنك تولي من أحب وجهها، هاأنت تستردين في بنت جنسك ما جنيتُ عليكِ من هجر ولوعة.
مِنْ ذا كنت أمي التي تحبني كثيرا دون مبادلة لأنك تدركين من قبل أني سأدفع الثمن باهظا.
حليبك خض في ركبي خضا وساح مني عرقا؛ حبا جما.
لقد نسيتك أي أمي يوم واريتك عني بالثرى، وظننت أثماً أن لن أكل التفاحة وأن لن أكون خلفا لأبي.
يا أمي السمحة الهفهافة جعلتني ورقةَ كرمةٍ بحدبك، ومن حبك خمرا يسكرني في ليالي وحيدا ، يوم ولدتُ بخرتني بالمحبة فكمنت المحبةُ فيّ، ما أن رأيتُ وجهها حتى وجدتها وأصابني وجد.
كما لو كنتِ بزواجك من أبي أردتِ أن تثمرين فيّ جدي الصوفي؛ فأكون متصوف المرأة الشغوف بامرأة ليست كالنساء، وان منهم وعلها تشبه كل واحدة فيهن، ولكنها وحيدة كما أن ليس للمرء غير أم واحدة .
أي أمي لم يكن أبي غير حجتك أمام الله، ولم أكن منك غير مبرر تلك الحجة ، لم أكن في جبتك غير ذريعة، كي تسلمينني لغيرك من النساء من ألهمتني أن التهم التفاحة .
عاري في صحرائها
لا مأوي لي
حملٌ أثغو
أكابد ما جعلتك تكابدين
كان كيدك أعظم
وكيدها الكيد
سبحانه يضع عشقه
في أجمل خلقه
وليس لي
ما ليس لي
يا أمي ..
هاأنذا وليدك ثغائي كما كان؛ كأن لا فارق ، مفارقة أن الرجل منا بين يديكن الطفل لا يكبر ، كأن الأنثى طفلها الرجل؛ الرجل الذي تشده إليها من حبل السر الأعظم الحب الذي لا ندري كنهه و لا نريد أن ندري .كأن الحب يستعيدنا إلي كنْ، إلي النساء، أليس كل مخدع منزل التعري - كما خلقتني يا ربي أو كما يقال ؛سبحانه جعلنا عراة بين يدي النساء من المهد إلي اللحد.
فيا أمي ذذتي عني صغيرا كي أكبر، وفي عرين الدنيا تطلع الذئبية/ المرأة التي تركض مع الذئاب، التي تلغو دمي وتسفح عرق قلبي، التي تنقلب عني بعد أن تأكل عنب الروح، التي هي منك أشبه مني كما لو كنتِ منحتيها الروح التي منحتني .. يا أمي.. يا للنساء ملتهمات أرواح وأجساد الرجال ، وكدهم بكيدهن، وقواهم برقتهن، وتعبهم بغنجهن وفتوتهم بجمالهن ،يا أمي لم تمنحيني شيئا لم تستعيديه، لم تتركي شيئا لي حتى الحلم .
غدوت كابوسا أمشي صباحا و لا أنام الليل..
كما أمسيت منها لست ابنك، ولكن شبح الروح مازال ينوس في غيابها ولم تعد لي أم .
كأن الحب يعيدنا أطفالا نحبوا وجهالا لا نعرف، كأن الأم من كنا فلذة كبدها وما ذوبتها في روحنا، من هذا يجعل الحب فلذة كبدنا تذوب في روح المرأة التي نحب.
أو كأن لو لم تنجبنا امرأة ما أحببنا امرأة
أو كأن ما حدث لم يكن ليحدث والسلام ..
خذنني عنك
وغطيني بالملامة
خذي خمري
خذي حمامتك التي تتسكع
في سريرتي
خذي هذا الذي لم تعطيني
خذي قلبي
واشويه جيدا
ثم طوحي به لأسماك بحيرة جليانة
خذنني عنك
وابقي لي أسنانك
أشتهي أن أعض
أشتهي أن أقرص خبزك
أن أكل ظلك
أن أروي عطشي
من عينيك
لا تبتسمي أرجوك
جن جنوني
وليس في الفضاء من أكسجين
ليس في الكلام كلام
و لا في النفس منك
من متنفس
صعبة أنت كما الشهيق
شهقة الروح
وأنت تتمخطرين
نعلك حاد
وسجاد الحلم
رهيف كبسمتك
طوحيه عنك هذا الذي هو أنا
أحمد الفيتوري
في بلدة سوسة
علي هدير البحر .
هديل الحمامة
أيقظ الروح.
في طرابلس
استيقظت خرساء،
بددت الأحلام،
أقلعت عن البرتقال؛
حمامة البرتقال.
استيقظت
علي سفح الريح
في شارع الإذاعة،
من فرط الحيرة
أفرطت روحها
في الإصغاء لموسيقي الصمت.
من فرط الصمت صاغت رجائها:
خليني في ظلك،
كن جديرا بي
كي أطير..
في الغبش
استيقظت الحمامة وطارت.
سوسة مسروقة من زبد الموج. من هدير بيسدون؛ من دسها في ابطء الجبل الأخضر، بين سنابل شعره من شماري وبطوم، حيث ترعرعت سوسة الليبية التي هي وشوشة افروديت في محارة الأبيض المتوسط ، حيث صرع كيوبيد مما صنع، وكابد الحب؛ اله الحب من دمائه التوت البري ما سمي بالشماري في سوسة هذه – من كان نبضه من حبَ البطوم.
علي سفح من الجبل الأخضر سُفح الدم الأزرق ، طبول تدق نبض سوسة، ليلة هدر الأبيض ؛ الأبيض من الخيط الأسود ، انسل هلال بسمتها، وطار يمام تنهيدتها، انبثقت أبولونيا مما مضى.
فيما حدث : ترادفا البدن والروح/ الروح عصير البرتقال / البدن لذوعته. دو ري العود خلود الروح، ومي فا الوتر دوزنة البدن.
ساحت بسمتها وذابت في ريقي ، بسمتها صمت الموسيقي ؛ الموسيقى انبثاق بسمتها. تهيأ لبسمتها مسرح أبولونيا، جوقة أبوللو ، راقصات المعبد ، موقدي المشاعل، ضاربي الدفوف والمبخرون، الحسناوات الثلاث، أرسطفيوس وكل أتباع مذهب اللذة.
أطلَ كوكب بسمتها محفوفا بوصيفات من نجوم برنيق، محروسا بفرسان قورينا، مزنرا بالإكليل والزعتر والشيح وعلي رفة صدر بسمتها رشقة من السلفيوم . مزامير يونسيوس تتلي في سموات عليا.
خيلَ لي .. بسمتها لي.
ساعتها مسرح أبولونيا عاجٌ بالآلهة وأنصاف الآلهة، سنابك خيل، هدير بيسدون .
بسمتها انبثاق الموسيقي.
بسمتها يتهيأ لها نبع أبوللو ، مسبح كليوباترا، فنار أبولونيا.
النبع الحكمة التي تنبع من مبسمها والمسبح انكسار الضوء علي المضحك وبريق خد الماء ومن قماشة مضحكها فنار أبولونيا.
كالبرتقال مضيئة بسمتها، زيت الزيتون يتلألأ علي ضوء فجر بسمتها، رفة شقائق النعمان عند مسبح الجبل الأخضر قرب منارة سوسة حيث مرقد الحسناوات الثلاث عند تلاطم موج الأزرق في مسبح كليوباترا شعت بسمتها. هناك انقشع الليل وانفلق الصبح وطوحت الشمس سنابل شعرها، هناك لمعان البحر من ذهب بسمتها ومن بسمتها نور الصخور المحطوطة علي الشاطئ كي تهدئ لوعة الرمل المشع ببياض بسمتها. هناك دفء شاطئ سوسة من دفء بسمتها، ومن بسمتها استكان البحر هناك وعمني العمى. ومرتبك البحر وفاقد الزمام هناك من هول ما رأي . أعمتني بسمتها ، عمني هدؤ المستريب وقلق من تدب فيه الحياة: أرجوك لا تجعليني أنهض من حلمي لقد استنفذت كل جهد وطاقة كي أصل إلي هنا ولقد استثمرت كل غبش وكل كابوس لأجل ذلك.دعوني في حقول بسمتها حيث حاصدوها مذهلون وحيث لا أنا هنا .
عزلة القمر
بسمتها البدر، القمر قشع النجوم وقد تصير بدرا، الهلال قشع منها ما قشع لكن القمر في تمامه كان وحيدا، يا لعزلة القمر.
القمر لا مثيل له ، بسمتها لا مثيل لها .
القمر في معزله ظن أن في ضوئه الشقاء ، دس جسمه شيئا فشيئا في رداء الليل حتى محق ذاته ، الظلمة كانت معزله، في الظلمة كان القمر قمرا ووحيدا وكانت بسمتها لا مثيل لها .
كان القمر يضيء الجانب الآخر دون دراية ، قالت السماء للقمر أنت تكفيني ، قالت الأرض للقمر أنت مرادي . قال العشاق في عزلة القمر لمَ شملنا وغنوا جمعا يا فضاح لم شملنا .
عزلة القمر كما بسمتها لا مثيل لها .
كنت أداري محنتي وسط لمة فيها العرق خلائط من وجع وضيق وقلة حيلة ، كنا عشرين في مربوعة؛ ساحة من أربعة أمتار في أربعة وباب من صلب موصد وحرس يذيقوننا المرْ.
في سجن بورتا بينتو في طرابلس الغرب كتاب سرد وشعر ونقد وصحافة؛ كان العشرون في زنزانة جماعية.
أتنفس ما ينفث زميلي من ثاني أكسيد الكربون ويتنفسني، والجسد المعجون من لحم مهروس ومن مسام نضاحة تنفث عرقا لزجا ممزوجا برطوبة يعبق بها المكان .
في علبة السردين الكل لا أحد، في ذلك المسلخ كنا نقضي يومنا بسعاته المئة أو أكثر، ولم تكن الكوة كافية لإخراج نفاياتنا ، لكن الحرس القساة يترصدوننا، تذمر ما أو توجع أو حتى لو صح وأن اتخذنا الغناء متراسا فإن العقاب جاهز، بعد توبيخ ولكز بمؤخرة البندقية يجرجر الواحد منا للزنزانة الانفرادية .
كنت غائبا عن الوعي وفي سريرة نفسي وجدتها : عزلة القمر.
أن تنفرد في زنزانة انفرادية مساحتها متر ونصف في متر. لهذا رفعت عقيرتي :
بسمته وأيام من ماضينا
طخ طربق فتحت أقفال الزنزانة الجماعية اندلف الكليزة كما كنينا الحارس، جرني من رقبتي وبعقب البندقية دفعني حتى كدت أقع ، سحبني حتى الزنزانة الانفرادية وهناك طاخ طربق قفل الباب وتربس القفل : في عزلة القمر تنفست الحرية.
أنا كليوباترا
أنا كليوباترا
أنا الملكة.
ما مرادك مني
- لقد ابتليت بك
ما بي مرض
أختلس الطرق
كل الطرق
كي أكون حمام كليوباترا.
أنا كليوباترا
أنا كليوباترا
أنا الملكة.
كف الموج
كف مراسيلك.
أنا عزلة القمر
كليوباترا.
في سوسة عند مسبح كليوباترا تنفست بسمتها، بسمتها البدر.
حمام كليوباترا في بولونيا في البحر لكنه معزل الملكة عن البحر ، نحت في صخر البحر الصلد حيث تتمكن الملكة من البحر و لا يتمكن منها . بسمتها خمارها تذود به عني، خمارها الشفاف ما ينبثق عن حديقة خدها ، ما يكشف لؤلؤة المحارة.
كنا عند عتبة المحارة دراويش الليل في سوسة نتسكع ، مصابين بالعطش للخمر؛ الشاعران سالم العوكلي وعبد الوهاب قرينقو والرسام فتحي الشويهدي، جوالة بهم دوخة المكان وبي سكر بسمتها. بين حيوط أنهكها الدهر وأجساد معطوبة بانتظار ما يأتي ولا يأتي وتحوطنا أرواح هائمة . عند المتحف ثمة مبني منهار من آثر النسيان، مبني صغير شيد من حجر الجبل وعلي عجل ، في المبني باب صغير كشق لا يري يشير إلي أن ما لم تتمكن من رؤيته هو دكان علي أرففه ثلاثة علب شاي، ثلاثة علب زيت ، وعلبتي طماطم أو هكذا شبه لي . دهش عن ما لم ير بما رأي : بالفحم خط ، بخط ضخم وغير دقيق، علي واجهة المحل ؛ الحائط الكائن المليء بالتجاعيد والأخاديد: جمعية الخلود.
سوسة هذه كأنها بلد الخالدين المنسيين؛ أبولونيا هذه مدينة أبوللو جبانة لأله الموسيقي هذا أم أنها محفل اللا موجودات؟.
أخرج كاميرا الموبايل والتقط المشهد . لاحقه صاحب الدكان حامل كنية جمعية الخلود : إن فيما وراء التصوير خير فلست في انتظاره وان شرا فقد ثقل القلب وانحنى الظهر من زمن الشر هذا ؟. هكذا قال شيخ البحر من خرج من فجوة الحائط ؛ خيل له أن الرجل قد فرَ من رواية أرنست همنجواي وجاء كي يسترد السمكة التي سلبها البحر منه .
قلت أنت مرادك الصورة وأنا مرادي الأصل. استضافنا الشاعرين والرسام وأنا علي كوب شاي تحت مظلة جمعية الخلود. واستطرد في مسرود تتخلله بعض الأشعار مما يحفظ وما قال ؛ كانت عراقية كأنها سمكة بوري أو دلفين أو قرش بل هي جمع هذا وزيادة. لم أعرف – أنا قريتلي معجون من طين كريت وماء البحر؛ سكبتني أمي من وجع علي سفح الجبل الأخضر فانزلقت من رحمها بمائي إلي البحر، خلقت غصبا صيادا، ولم أعرف لصيد الحورية العراقية طريقة . لأجل عينيها فتحت جمعية للمواد الغذائية ، في البلاد، المؤممة كل شيء، لا يتسنى أن تحصل علي غذاء يومك دون كتيب مشترك في جمعية عامة ، هكذا تسني لخلود العراقية غذاء يومها مني ولهذا كنيتُ الجمعية بسمها . ولم يكن ثمة زبائن غيرها يأتون هنا؛ الآخرون أوصل نصيبهم لبيوتهم . هذا – وأشار للبناء المتداعي – خلوة حبي . الحب كالتصوف لا بد أن يعتزل؛ ما رأيت عاشقين في غير عزلة.وحيث ليس لنا وجود عنده مسترسلا قال : كنت بحاجة لبسمتها ، وإن لم توجد كنت خالقها فإن وجدت عاشقها. عادت للنهر وقد ضاقت بالمالح وجال بالعراق ما جال من يومها لم أشاهد التلفزيون، ولا تركت مقعدي لأحد. منحت نفسي لذكراها وجسدي لخلوة الحب هذه ؛ جمعية الخلود.
وردة في الجحيم
كلُ شيءٍ فيها
وردٌ؛
الحديقة ُالسكرانة ُ
بوردها.
بسمتها كالنحل يجني العسل بتؤدة من فاه الزهرة الناعسة. بسمتها كالنحلة تلسعنا برحيقها فتذوب في ريقنا حلاوة الحياة وتستيقظ الروح.
بسمتها كالحمامة تشاركنا البيت كي نطير فيها وتنبجس في النفس شساعة الكون.
بسمتها كالظل نرتكن إليه من سطوع الضوء، بسمتها كالحلم ينبثق منا ليرطب شغاف النفس.
أو كالسنونوة.
كذا غرد خارج السرب ، في نفسه أنه غلغامش حصل علي الوردة ولكن الحية سلبتها منه . هاله أن لم يكن بمستطاعه فضح السر لحارس سوسة فتركه في غيه ، في نفسه أنه مرآة الظلام .
نهار سوسة أشباح من صوان؛ حسان ثلاث يتهادن في مخمل من حجر، باتوس ملك قورينا يقف وسط المتحف كي يلفت الأنظار ويركزها نحوه مثل أي طاغية مكمنه السماوات العليا .
جلت فيها كما جالت بسمتها فيَ وعند حائط المعبد اتكاء قلبي التعب .
كانت قوريني قد قاومت قوات بطليموس عند استيلائه علي قورينايئة وأسهمت في ثورة 313 ق م ، وكان يتعين معاقبتها ولكن إزاء كونها أعرق مدن قورينائية وأعظمها شأنا وأوسعها شهرة في العالم الإغريقي فإنه لم يكن في وسع بطليموس أن يعاملها علي نحو ما عامل مدينة برقة . ولذلك ولكي يحد بطليموس من خطورتها دون إذلالها، اكتفي بتقليم أظافرها ، وذلك بأن فصل عن هذه المدينة ميناءها، ورفع هذا الميناء إلي مصاف المدن، وأطلق عليه اسم أبولونيا نسبة إلي أبوللو كبير آلهة قوريني. وصار شعارها الكبوريا وسكة عملتها .
في أعالي سوسة يرقد أبوللو ممسكا قيثارته جاعلا من سكانها عباده والجبل الأخضر حاميها. ولم يكن كاليماخوس القوريني شاعر الإسكندرية بعيد عن ذلك المكان ، كان شاعر أبوللو المختار- ليس في موقع رأسه فحسب في قورينا، بل حيث ثمة عارف للغة الإغريق . لهذا وجدته في حافظة أحد أطفال سوسة القريتليين يتمخطر دون أن يعيرني أي اهتمام ، كان كاليماخوس هائما في أبوللو وقيثارته، وكنت هائما في بسمتها. حينها تسني لقوس قزح أن يفلق فضاء سوسة ،أن يستعير من أريج بسمتها رونقه كذا عند الأفق قرب فندق المنارة ، من نوار مضحكها شكلت النوارس بياض البحر المتوسط.
عند الربوة التي تعلو حمام كيلوباترا اتخذ كاليماخوس مسرحه لم يكن ثمة أحد غير صمت الكون وفضول الكائنات ، كان ذهول كل أحد محتشدا في ساحة الميناء عند أسفل الربوة .
وكان وجودي مكثفا وأثيريا عند مطلع بسمتها حين أخذ كاليماخوس ينشدها :
أسلك طريقا لا تطؤه العربات
لا تقد عربتك في إثر الدروب التي يسلكها الآخرون
و لا تسلك الطريق العام
و لا الطرق الواسعة
بل طرقا لم يطأها أحد
وإن كان دربك أكثر ضيقا
وإن أكثر وعورة
ذلك لأنك تتغنى لمن تفضل صدح الفراشة العذب
ليس لمن يطربها أي نهيق .
فلينعق الآخرون
ولأبق أنا رقيقا أحلق في الأثير
نعم ، حقا نعم ، لأتغنى مقتاتا قطرات الندى.
وبمشيئة ربة المخاض إيليثويا خرجت عارية من أمك
لكنك تقفين في باروس تزينك الحلي وترفلين في أردية
البرق ، ومن خصلات شعرك دائما يفوح العطر .
هيا تعالي وباركي أشعاري الإليجية بعطر يديك كي تخلد خلودا أبديا .
بعد أن تهت في دروب سوسة عدت من متاهتي ممسكا لجام الدرب : ما الذي جئت تفعله في بلاد الهي المفضل قال كاليماخوس.
لم أفطن لأحد صاعقة بسمتها أذهلتني عما بي وما يحوطني ، لكن قيثارة نبهتني ؛ ساعتها وعلي بعد خطوات بحرية سونسيوس القورينائي كان يخط مدائحه الفلسفية في القيثارة: هيا انشدي أيتها القيثارة الصافية الرنين. استمع إلي نشيد الجدجد وهو يشرب ندى الصباح ، ها هي أوتاري ترنَ من تلقاء نفسها ومن حولي يسبح صوت نبوي فأي نشيد سيولده ألم الخلق الرائع هذا ؟ .
معزوفة بسمتها علت ولم أطلها؛ كلما خلت نفسي طائلها زادت في غيها ، عند مسبح كليوباترا لؤلؤة محارة كانت ، عند الجبل في الغابة حباحب، عند السفح عواء الذئبة الشبقة وحمحمة الفرس التي يشدها قيد الحقل. كان سونسيوس الفيلسوف ابن طلميثة قد صار مطرانا علي ولاية برقة. أما كاليماخوس القورينائي فقد كان مديرا لمكتبة الإسكندرية ، لكن حنينه إلي قورينا لم ينضب : ... إذ أنها كانت المدينة الوحيدة التي تعرف كيف تشفق . لكن هذا ما قد يكون دافعه في المقطوعة الإليجية لمدح خصلة برنيق :
وذلك حتى تطفو قطعة الحديد المصهورة الضخمة
التي غاصت في البحر
وحتى تلد باللاس طفلا
وحتى تدخل أرتيمس عش الزوجية
سوف تبقي أجمل الأشياء من أجل برنيقي .
أيتها البطلات ، يا سيدات ليبيا اللائي يحرسن وطن الناسومونيين وشواطئهم المترامية ، هبن المزدهرة مجدا أوفر .
وكانت بسمتها مسقط رأسها برنيق؛ التي ستوهب اسما جديدا هو بنغازي ، كما وهبت أبولونيا اسم سوسة، وقورينا شحات..
أحمد الفيتوري
[ أي جني علّم هذا الشاعر
ان ينظم آلاء قلبه، شعراً ؟. اوفيد ]
(1 )
الشعر هو النفس؛ النفس التي لا نعرف لأننا نحبها عادة دونما حاجة لمعرفة سقراط، لهذا الحب هو صيرورة هذه النفس. وحيث نجد الحب نجد الشعر لذا بيت الشعر البسيط، حيث من الصعب منال هذه البساطة التي هي نفس الكون؛ أو بالاحرى كون النفس الذي تشتد ظلاله كلما اشتد الضوء؛ الحب.
كنت قد جئت هذه الأشعار المضمومة بين كفي هذه الأوراق كما لم أجيء، فالحق كنت أقرأ فيها عيني حبيبتي؛ اللتين لم يتسن لي مرة أن نظرت فيهما كما رأيتهما في هذه الأشعار- بطبعي الخجول المتقنع بسترة المهرج- التي نطالعها، في حالة كحالتي، كما يطالع المنجمون النجم، نستلذ الطالع.
حسبي أن فيها خلجة من خلجاتي؛ لهذا فكل ما نختاره يختارنا من حيث أننا نستلذه، فأشعار الحب نحبها لأنها أشعار حب حسبها ذاك، وان كانت ساذجة بسيطة فالمهم أنها نار تدفيء الوجدان وتضيء الفؤاد. كلما كانت غير مهذارة لوعتنا، كلما تشع بهسيس نارنا كلما لذعتنا، كلما تلعثمت فصاحتها شع جمرنا، كلما سكتت بحنا بولعنا.
الحق أقول لكم: هذه الأشعار ليست من الشعر إلا لأنها دوح سرنا؛ السر لم نبح به لأحد فقد كفانا نباح دمائنا ذلكم. وتخربش فينا كما تخربش قطة البيت المدللة سجادة غرفتنا الأثيرة، نكتمها كلما دغدغت فينا مسرات، مسرات ندسها حتى عن النفس، ونصدع بها - كما صدع فيتاغورس- كلما وجدتنا أو وجدنا النفس الجزيرة المجهولة التي لا يهتك خبائها غير الحب.
هذه الأشعار تقولنا كبشر؛ ذرة في فساحة الكون الفسيح، نجمة تضيء ألاف السنين، كروح تسبح وقد تفتت إلى ذرات، كثيرا ما بهرنا ضوئها وأنار الدهشة فينا، فغدونا من جديد أطفالا مسكونين بالغبطة، هذه الأشعار هي ضوء النجمة التي خبت منذ أمد، وهي كشاف النفس غير الدعية وغير المتملقة؛ البئر الأولي التي تدفنها رمال العقل المجحفة؛ حالة التصحر التي نزهو باختراعها.
الحق أقول لكم هذه الأشعار ليست من الشعر إلا لأنها هي الشعر؛ سر الجسد ما هو من أمر الرب، الجسد الذي هو أنا وقد عدت دون حاجة لمرآة؛ أراني في عيني حبيبتي.
غدوت الآخر؛ أنا السر الذي لم يبح لي بمكنون سره، السر الذي يتمشى على رجلين كلما تسني لي مرآه اغتبطت، هذا الحبيب الذي غيابه غيابنا وحضوره الحضور فينا، هذا ما يتجلى في هذه الأشعار كما لا يتجلى أبدا.
والكثير من غير ذلكم من شعر هو شعر يلهج بالخطل والخطر يلهج باللسان، و لا يتصورنا غير عقل يعقلنا، وكأننا البعير يعقل مخافة الضياع في صحراء الوجود.
هذه الأشعار تستعيدنا من السفر إلى.. إلى السفر فينا؛ فالتغزل في الحبيبة استعادة الذات من التيه، والتغزل في الحبيبة تبديد للسرب التي تأخذنا عن البئر الأولى؛ الجسد حقيقتنا المبددة هنا وهناك.
وهذه الأشعار هي تميمة ومدائح هذا الجسد لهذا فكأنها مرآة النفس وقد تفتحت، فقصائد الحب حافظة توقنا في أن نكون في الآخر ولهذا تردد وتحفظ ما بين بلوغ جسدنا حتى هلاكه.
هي ديوان الشعر في وبكل اللغات واللهجات المدونة والشفهية.
في شبه الصحراء دليل الحياة شقائق ربيعها، والحياة هذه الشبه صحراء دليل الحياة فيها الحب الذي ندسه عن الزمن في الشعر.
كل يوم رأيتها أو لم أراها، في قصيدة حب قرأتها أو كتبتها التقيها، وما ألتقي؟ ؛ الوجود الذي يتسرب من بين الأصابع، أنا حيث لا ألتقيني في غير لقياها، فالوجود غير مهيأ لوجودنا، أولئك صحاب هذه القصائد من يهيئ الوجود لوجودنا؛ من يرشون الأكسجين في دمائنا، مصفاة الغبرة من هوانا.
ماهية الشعر في هذه القصائد الحب، حيث الشعر, كزرقة السماء دون كلام, الشعر غير المنشغل بماهيته، هل فكرت مرة وأنا أختار قصيدة حب لكِ في غير أنها قصيدة حب لكِ.
هل عندي وقتها، أنا المدهوش بها، غير عينيها بهما أرى ما لا أرى، في حالتي الشعر يكتبه قارئه، في حالتي من يختاره.
قصائد الحب من الشعرية الغنائية في كل اللغات ومنها لغة العيون، هي في حدائق الكون النجوم يشتد ضوئها، يسطع وجودها كلما بان الكون غير موجود، وتلهج بهسيس الصمت الصاخب؛ أليس كل عاشق بيت نفسه الليل، حيث يدس ضاجه في سكون الليل ؟.
العاشق طفل يخبئ حلوائه عن الآخرين وكل قصيدة حب هتك لخباء هذه الطفولة، لهذا فقصيدة الحب بيانو القصيدة الغنائية؛ ثمرة الشماري التي يعريها لونها وتذوب في اليد، الخوخة تنتظر الفم، ويشم مذاقها، الخوخة تنتظر اللسان، وبرية تسمى التوت البرى، الخوخة تنتظر عناية مركزة، الشماري ثمرة سفح الجبال والغابات البكر وكذا حبيبيتي في الشعر.
كذا الشعر في قصائد الحب أغنية عارية؛ الذات مموسقة، سيمفونية الكون الغائب في نفسه؛ الجسد يبوح بسره.
في هكذا قصيدة؛ الشعر هائم في الحب، الحب هائم في الشعر، هارموني النشاز الذي هو تمرد بتهوفن على بتهوفن، نسيان الحبيب لحبيبه حتى يخرجه منه ليلتقيه، كسر العازف الوتد ليستولي الوتر على مسافته؛ على مسافة سكوت فيروز وقد أخذت الأغنية تغني نفسها، فيروز من تهوى حتى دون أمل، وشفاه حبيبتي تغريني بشهيات القبل.
في هكذا قصيدة الشعر هائم في الحب وبالاحرى في المحب، فيكم.
( 2 )
الشعر في هكذا نص يلتقينا، الشعر في حالتي فصيح فصاحة البكم. وهذه الأشعار المختارة لم أختارها للشعر، اختارها القارئ فيَ لها.
هكذا هذه الأشعار ترشح بالحرية؛ حرية المريض بالحب الذي يستعين على الحب بالشعر.
الشعر الذي ليس من الكلام هو الكلام، والحب الذي ليس من الوجود هو من وجودنا؛ وإذا التقي الذي ليس من الكلام بالذي ليس من الوجود صارا وجودنا المتعالي أو وجودنا الخالص، والخلاص الذي ننشده ونشد عليه بالنواجذ ساعة يشتد المد، النفس الأخير للغريق من تكتسحه موجات بحر الظلمات المترادفة.
اشتد أوار المعركة؛ ثلة من المقاتلين الليبيين حاصرها جحفل من الجيش الفاشستي الإيطالي.
من عادة المقاتلين الليبيين أنهم يقتحموا محاصريهم، عند الاقتحام يغني كل فرد " غناوة علم " أغنية من بيت واحد ذاكرا فيها اسم معشوقته، إذا استشهد ينقل الناجون الغناوة إلى نجع الشهيد حيث تبكي المحبوبة قتيلها.
ذات مرة أحدهم عزم على شق الحصار بآخر سهم في جعبته؛ جسده. لكن لم يكن قلبه قد عمر بعد، لم يتسن له لحظة ليختلي بنفسه، لم يختل بمحبوبة، ولج أتون العدو شاقا متراسه صفا صفا وصرخته تجلجل: ( نا خالك يا للي ما لك خال )؛ أنا حبيب من لا حبيب لها.
هذا الشهيد لم تكن قصيدة حبه غير البيت المفرد هذا.
سمعت البيت المفرد؛ ممن سمع من نساء، شابة في النجع لم يكن قلبها قد سكن بعد، منحت هذا القلب وكذا الجسد لصاحب ذاك البيت المفرد؛ عمر قلبها بهذا الساكن وسكن الجسد، كانت خليلة لمناديها حتى ناداها باريها.
البعض يوكد مخبرا أنهما التقيا، الرواية ذكرت الأسماء لكن الزمان مصابا برشح النسيان أو الغيرة لم يعد يذكرهما، لكن السارد دس حكايتهما عن عيني الزمان.
هذه المختارات هي تنويعة لذاك البيت المفرد..
( 3 )
أشار عليه رينيه شار؛
أن يأخذ الحكمة،
من أفواه الشعراء.
من يقفز إلى النار،
لا يمتلك سوى صرخته
ملجأ.
لم يتمكن من الحكمة،
لكن صرخته جلجلت.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""
بنغازي - الأحد، 31 يوليو، 2005
أحمد الفيتوري
قال:
شربت مرق الأحذية المنقوعة
في الخوف والنحيب
أكلت ما يخبزه الإسفلت
في جوفه من حنطة التعذيب
وافترشت جوارحي حشية تملأها بالمقت
الأوجه المقلوبة
والأعين المثقوبة ..
.. وانبثق محمد عفيفي مطر في الشعرية المصرية مفردا ، تميز بشعرية ضد السائد أيا كان السائد وأنه خارج السرب ، وامتزجت هذه الشعرية بعجين الثقافة العربية المصرية ، فكانت شعرية خصوصية حتى التماهي في جوهر كل ما هو إنسان ، متخلقة وخالقة لغة الوجود الإنساني المتعين في الزمان باعتبار الزمان صيرورة الإنسان في عين مكان ، وفي المكان حيث المكان من إبداع إنسان يخلق زمانه ويحقق وجوده .
وامتزج الشاعر في الشعر فكانت حياته شعره ؛ " سنابل " الجهد والمثابرة والبحث والدرس وفلسفة المعنى ، ولهذا كانت مجلة " سنابل " التي أصدرها في نهاية الستينات حيث لم يكن من السهل الكتابة فما بالك بإصدار مجلة في كفر الشيخ بلدة الشاعر ؛ هذه المجلة التي قدمت المتميز والأصوات الجديدة والمعروفة حاليا في راهن الثقافة العربية .
هكذا جاءت أوائل زيارات الدهشة – هوامش التكوين كسيرة ذاتية متماهية تتشكل وتشكل الموضوع : " كان قلبي معلقا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات في الأعالي . علوة فزع ورعب ، وانطلاقاته كارثة احتمالات ، ومناوشاته لعب فوضوي بين الأمل والموت ، وكلما حط ليستريح نفرته الدهشة بزياراتها المباغتة ، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة " .
قرأت أكثر من مرة كتاب الشاعر المصري الأبرز : ( أوائل زيارات الدهشة - هوامش التكوين ) ؛ وهو سيرة ذاتية ، أدهشني الكتاب ، وأدهشني عدم الاهتمام به ! .
وكنت قرأت جل شعر محمد عفيفي مطر الذي صدرت دواوينه في طبعتها الأولى خارج مصر عدا ديوان واحد ؛ أصدره على نفقته .
وعرفت هذا الإنسان الشهم الربع الأخير من القرن الذي استعجل الختام .
فما الدرس ؛ درس الكتاب ؟ .. هو الصدق الذي سربل حياة هذا الشاعر والإنسان ، وأن ليس ثمة مسافة بين كينونة الشاعر والإنسان فالحياة واحدة - وليس بالامكان تجزئتها - كما الحرية ، وأن كل شيء مكثف وشفاف في التجربة الشعرية والحياتية ، وكما لا يساوم المفردة التي تضيق عن مكنوناته كذا لا يساوم إذا ضاقت الأرض في وجهه .
يأخذ الكتاب بقوة ، يأخذ الشعر بقوة ، يأخذ الحياة بقوة ؛ لا مكان لأي تنازل وإن كان مكان لضعف إنساني ؛ لحظة حب ، إحساس بضعف خصم فعفو عند مقدرة . وكذا ترك القصيدة حتى تطيب فإن الطزاجة والجدة والجدية صرامة الحكم ونقيضها الخصم .
كذا ينبئ الكتاب ؛ ينبئ مكنونه كما ظاهره ، والبينة في الزيارات الأولى للدهشة في هوامش التكوين مقدمة تفتح أمومة الترتيل والولاء الأول وثلج الجيم المعطشة والشاعر الذي ينشق قلبه لمواجهة كائنات الخوف ؛ الدرس الأول في حياة محمد عفيفي مطر الذي هو النص الحي والذي لا تفارق بينه والنص ؛ فمن قرأ نص عفيفي عرف عفيفي شخصيا وهذا هو تكوينه والأساس وسدرة المنتهى .
وفى هذه السيرة قشع لأي ستر وفيها نتبين حبل الوريد الذي هو الرباط ؛ ما نسجه محمد عفيفي مطر طوبة طوبة ، معتمدا أس هو لبنة تشكلت بفعل امرأة غلابة (سيدة أحمد أبو عمار ) ورجل ( عفيفي مطر ) عصى ؛ هما أبوي الشاعر الذي صرنا نعرف .
وما تبرزه هذه السيرة أنها متفردة ؛ هي ليست ( الأيام ) المبنية على سرد نثرى لمتكلم يمر متعجلا وذاكرة مسهبة ؛ هي ليست تجربة الشاعر المتحذلق الذي يقدم ملخصات لما قرأ وما سمع ، وهى ليست كتابة تخرطها المخيلة والادعاءات والكذب ، ولأنها ليست كذلك فهي كتابة أخرى ما تضيفه لكتابة السيرة العربية أكثر بكثير مما تكرره ، وهى مثل شعر مطر ستبقى أوقاتا حتى يلتفت إليها الراسخون في العلم ، بعد أن يذهب مديرو العلاقات العامة - من كتاب وصحفيين مدعين - إلى الجحيم .
ورغم أن الأشياء تأتى متأخرة لهذا الإنسان الكبير ، غير أن عفيفي لا ينتظر غودوا : لا شيء يحدث لا أحد يجئ ؛ فهو غودوا الشعرية المصرية الحديثة وهو بهذا لا يكتفي وحسب بل ويقاتل بشراسة المبدع ليوكد على ذلك .
من ذا تتالت كتاباته ومنشوراته ، ولعله من هذا بدأ الآن الكتابة الشعرية الشفافة والعميقة للصبيان وقد كتب لهم عندما يكبرون الكثير المهم والمتميز .
هذا هو محمد عفيفي مطر الذي يمكن تبينه من شعريته ومن نثره ، في دواوينه وفي سيرته وفي حكيه للفتيان قبل أن يناموا .
حكى الشاعر محمد عفيفي مطر ؛ حريق القلب :
فلاحان أميان كانا يتسامران بحكايات وأمثال وأخبار ، وأنا صبى أجلس بالقرب منهما أسمع ؛ قال أحدهما متحدثا عن عجائب الكتب ومباهج القراءة التي حرما منها : رأى صبى يافع صورة فتاة صغيرة جميلة في أحد الكتب ، كلمها فكلمته ، قالت إنها يتيمة أسيرة في أحد القصور البعيدة ، أخذها أحد الملوك فيمن أخذ من الأسرى والسبايا ، بعد أن اقتحم بلادها بجيوشه وقتل أهلها وساق من بقى حيا إلى هوان العبودية والأسر في البلاد الغريبة .
استمع إليها الفتى وهي تبكي في الكتاب وتندب أهلها وبلادها ، وقالت إنني أستنجد بك ، فأبحث عنى وحطم قيودي وحررني من هوان الأسر ، فانفتح قلب الفتى لها وشغفته حبا وفجرت في نفسه ينابيع الحنان والرحمة واتقدت في قلبه جمرة الحرية ومسئولية الواجب المقدس لنجدة الأسر المقهورة ..
كان الفتى يكبر حتى غدا شابا ممتلئا بالفتوة وجسارة القلب وعنفوان الروح ، منشغلا متوقد الحماس لإنجاز واجبه المقدس ، والفتاة كانت تكبر في الكتب ، وتعلوا نداءاتها وتسيل دموعها وتنتشر صرخاتها بطلب النجدة من كتاب إلى كتاب ، والفتى الذي أصبح شابا يعن القراءة والبحث عن معظم الأقاليم والتواريخ وأناشيد النضال ضد الطغاة والطغيان وليعرف الرجال الذين تمتلئ قلوبهم بشجاعة الأحرار وتفيض نفوسهم بالرحمة والعدل ، ليتخذ منهم أنصارا ورفقاء يتكاتفون معا لمغالبة أهوال الطريق لدحر الطاغية .
لم يكن الفلاحان الأميان يعرفان أنني بالقرب منهما أسمع ملهوفا لأعرف كيف انتهيت حكاية القارئ وما كشفته الكتب عن مصائر الطاغية والأسيرة وكتائب العدل والرحمة والحرية ، ولكن الفلاحين الأميين قاما ينفضان ملابسهما مما علق بها من تراب ، ولهفتي لمعرفة الختام تعتصر قلبي وتختنق بها أنفاسي ، ومشيت وكأن حريقا قد اندلع في كياني .
ولم يطبع للشاعر في مصر الستينات والسبعينات والثمانينات غير ديوان وحيد هو " رسوم على قشرة الليل " – الطبعة الثانية لهذا الديوان تمت في ليبيا – ؛ الليل الذي حاول كسف شعرية مطر ، مطر الذي اتخذ من الكسف كشفا فتسرب في الشعرية العربية لجيل السبعينات مثل تسرب دفء الشمس في الغيطان . وقد أعطاه النقد الأدبي في مصر وفي غيرها الظهر ؛ وبهذا مكن لشعرية عفيفي أن تتعافى وأن تتحقق وأن تكون الشعرية الطازجة في الشعر العربي الحديث ، والمتفردة بكثافتها ولغتها المركبة ، وأن تتدفق كشعرية للصورة متجسدة للعين المبصرة كطمي في مكنونه خلائق وتخلق ، وصور متدفقة ووثابة وكطلع يهس في القصيدة / الفعل الذي يتحقق حين يكون لكل قارئ قراءة . أو كما يقول جابر عصفور ، في العدد الخامس والثلاثين العام الثالث الموافق مايو 1991 م من مجلة الناقد التي كانت تصدر بلندن ، والذي كان غلافه صورة الشاعر محمد عفيفي مطر حين سجن الشاعر عقب احتجاجه على ضرب العراق فيما عرف بحرب الخليج الثانية : " .. ولا شك أن لمحمد عفيفي مطر إسهامه في تجربة الحداثة العربية المعاصرة ، ودوره الرائد في تجربة الحداثة المصرية ، فهو الذي حفر لتجربة الحداثة المعاصرة في مصر مجرى مغايرا لمجرى التقاليد العقلانية المنطقية المتلفعة بأقانيم التعقل والإنشاد والوضوح والاتزان وكان المجرى الجديد الذي احتفره عفيفي مطر مجرى يموج بتيارات جديدة ، متمردة تؤسس روح المغامرة والتجريب ، والارتحال إلى العوالم المغلقة الأبواب ، وتفتح عهد اللغة والرموز .. " . أما حلمي سالم – من جيل السبعينات كما يحب تسمية نفسه – فيكتب في نفس العدد : " محمد عفيفي مطر أب من آبائي ، أذكر حواراتنا القديمة الطويلة معه ، في بيته بكفر الشيخ – ومعنا الشاعر على قنديل قبل رحيله ، والشاعر الليبي محمد الفقيه صالح – وأذكر حواراتنا الراهنة . كنا نختلف على الكثير ونتفق على الكثير ، لكننا في كل في كل حالة كنا نتعلم منه ، ماتزال ترن في أعماقي جملته الحاسمة الساطعة ، حينما كانت تشتعل من حولنا الحوارات بخصوص دور الشعر والتزامه بتغيير الواقع الاجتماعي :( الشعر ملزم لا ملتزم ) .. " .
حكى الشاعر محمد عفيفي مطر ؛ الحلم الأخير :
قال الشاعر العجوز ، بعد أن كف بصره وحيل بينه وبين القراءة والكتب والكتابة : لقد قضيت حياتي في المكتبة ، ولست أدرى أينا امتص الحياة من جسد الآخر . لقد أدخلتني إلى سراديب متاهة متشابكة معقدة ، فلم أستطع الوصول أو الرجوع حتى كلت عيناي وعميتا ، فهل بقى لي الآن إلا أن أحلم وأتمنى أن يكون الفردوس على هيئة مكتبة !! .
قال صديقه وهو يقوده عبر ممرات الحدائق والبساتين ليرفه عنه ويخفف من حزنه العميق : كنت أتسأل بيني وبين نفسي وأنا أرى أرفف المكتبات مقلة بالكتب من أقدم عصور الكتابة حتى زماننا ، ماذا يحدث لو تململت الأوراق ورفضت أن تكون أداة لنقل الأكاذيب والافتراءات ووسيلة لنشر الأباطيل عبر الأزمنة ، وانطلقت لتعود إلى طبيعتها ومصادرها الأولى ، شجرا في الغابات وأعشابا ونباتات تغطى وجه الأرض بالخضرة الزاهرة !! .
قال الشاعر العجوز : لو قلبت سؤالك على وجوهه المختلفة ونظرت باحثا في المعضلة من زواياها المتعددة لوجدت أن الكتب ضرورية في كل الأحوال ، فأنت نسيت أن الكتب هي المعرض والسجل العام لجهاد البشر من أجل الحق والحقيقة وجوهر الفضائل ، وجميع الأكاذيب والأباطيل لم تكن إلا أجزاء وخطى لابد منها في تاريخ هذا الجهد الصعب ، وهى جميعا يكشف بعضها بعضا ويحدده ويبرهن عليه ، ألا ترى أننا لا نعرف ظلام الليل إلا بغياب الشمس و لا نعرف ضوء النهار إلا بزوال الليل !! . تنهد الشاعر العجوز بحنان وأسى وقال : نعم لم يبق لي من أمل أو حلم إلا أن يكون الفردوس على هيئة مكتبة .
مؤخرا تم طبع دواوينه الشعرية لأول مرة في مصر ، وصدرت مختارات من شعره وطبعت ووزعت في سلسلة كتاب الأسرة الشعبي ، وكان قبل قد أصدر سيرته الذاتية وان لم يهتم بها ولم يتم تناولها بالكتابة . هكذا في هذه الفترة تبين للسلطة الثقافية في مصر أن محمد عفيفي مطر شاعر مصري ! . ولأول مرة في تاريخ التلفزيون المصري ظهر على شاشته هذا الشاعر بعد تجربة شعرية هامة ومتميزة قاربت النصف قرن من الزمان ، وتم إنجاز شريط عن الشاعر .
في معرض الكتاب في دورته الخامسة والثلاثين في المقهى الثقافي ؛ عرض شريط رباعيات الفرح – صدر للشاعر عن دار رياض الريس ديوان بهذا العنوان - ، وأقيمت أمسية شعرية للشاعر – الذي لا يشارك في زار القاهرة معرض الكتاب – ، حيث ألقى بعض من شعره وحاور الجمهور الذي ملأ الخيمة ، وهو جمهور عادى قل حضور المثقفين ضمنه مما ميز اللقيا . والشريط سيناريو الشاعر على عفيفي والإخراج الأول للمخرج أحمد القلش ، كما ساهم في إنتاجه رغبة هذا النفر في تجسيد شريط عن شاعر كهذا الشاعر الذي يحبون ، ويرون تميزه في التجربة الإبداعية العربية في مصر .
وفي الشريط تتابع الكاميرا الشاعر في بيته كفلاح في قريته يحرث فيحصد ، يربي النحل يتحمل اللسع فيجنى العسل ، ثم نتابعه في زيارته لأصدقائه في مدارسه الأولى حيث تعلم وحيث علم ، يلتقي أستاذه كما يلتقي زميله وتلميذه . عجلات قطار لازمة الشريط ، وفي القاطرة ومنها تدس الكاميرا الدلالة : الشاعر في المقعد يتصفح يتفحص صوره متأملا معنا صورة الأم دون الأب ؛ حيث الشعرية مدسوس الأم في وجدان الطفل ، فالشعرية الطفولة ، الكاميرا فصيحة والمصور ممسك بكادره ، وعين المخرج دقيقة في مونتاج يفصح عن سيناريو شغوف بتكثيف حياة عريضة . ولعل دلالة اللقطات التي طالت ترقب الشاعر في ممشاه يمكن أن تشير للشاعر كما مشاء ، وكل مشاء متأمل في مكانة هذا الشاعر ذي علاقة بالفلسفة ، وقد كانت الفلسفة والفلسفة اليونانية بالذات بلسم روح هذا الشاعر الذي درس ودرس الفلسفة .
محمد عفيفي مطر صديقي وكنت أشهد الشريط بعين الصديق التي ترى قرين الروح بصفاء الكريستال ، سؤددها الصدق ؛ ما له يغبطها وتكره ما عليه فتكون مرآة الحق له كما عليه .
التقيته المرة الأولي في ما بين الرافدين ، هو في بغداد سنوات بعيدا الطمي/ القاهرة لكنه ليس فيهما ، كالرمح جسدا وفي الكلام ، نظرة شاردة وذهن متأمل ، في هذه المرة الأولي كنت أعرفه قبل القبل. التقينا في مقر مجلة الأقلام العراقية قدام وزارة الدفاع وقفت برفقته ، لفت انتباهي مدفعان موجهان نحو البناية التي تصدر فيها تلك المجلة الشهيرة وغيرها والتي يأمها المثقفون ، قدام هذه الوزارة في مرمى البصر ثمة مبنى شعبي قديم منهار الواجهة وغطى بقطعة قماش هي عبارة عن " الشادر " لحاف المرأة العراقية الأسود ، دسست فضولي حيث أطفال نصف عراة يلعبون ونسوة خلف الستر .
خرجنا معا